رئيس التحرير
عصام كامل

مصر تبحث عن «مخلص عسكرى».. السيادة وحسن توجيه السلطة أهم مطالبها.. «الناصرية» اعتمدت «كاريزما القائد» بديلا عن المؤسسات.. رجال الأعمال أهم عيوب مرحلة ما قبل 25 يناير.. بع

مظاهرات 30 يونيو
مظاهرات 30 يونيو - ارشيفية

لعل الاختبار الصعب الذي تخوضه الدولة الحديثة اليوم يتعلق بإمكانية التوفيق بين ضرورتين؛ الأولى هي رسوخ سلطتها المركزية التي تمنح لها وحدها السيادة وتبقيها حية على الدوام، والثانية هي التحكم في هذه السلطة وحسن توجيهها من قبل مواطنيها الأحرار ولصالحهم، أي الجمع بين قيمتين تبدوان للوهلة الأولى متناقضتين: الحضور القوى للدولة، والسيادة الكاملة للشعب.


وفى حال نجاح الدولة في فك شفرة المعادلة تصير دولة ديمقراطية، أما في حال الإخفاق فإنها تصير إما إلى دولة رخوة عندما تفشل في ضبط مواطنيها، وتأكيد حضورها؛ وإما إلى دولة مستبدة إذا ما انحازت إلى قوتها ومركزيتها غير مبالية بحقوق المواطنين الذين يصيرون مجرد رعايا.

لا يشير مفهوم الاستبداد هنا إلى شكل معين من أنظمة الحكم (رئاسي/ برلماني)، أو نمط معين من أنماط بناء الدولة (ملكي/ جمهوري)، بل إلى نسق سياسي يقوم في جوهره على الإكراه والتسلط بغض النظر عن مظاهره الخارجية؛ فالمهم في تشكيل هيكل الاستبداد هو مدى توافر بنية سياسية استبعادية تمارس حضورها لصالح الأقلية، فيما تستبعد المجموع، وترفض بالمطلق إمكانية تداول السلطة.

وفي هذا السياق، يمكن فهم تحولات النظام السياسي المصري في الحقبة المعاصرة، أي التالية على ثورة يوليو 1952م، والتي شهدت تعاقب نموذجين أساسين داخل هيكل الاستبداد نفسه:
الأول هو النموذج الناصري، والذي حمل عبء التطور الاجتماعي والسياسي لمصر حتى نهاية الستينات من خلال نموذج تحديث سلطوي صريح، تنكر لمفهوم التعددية السياسية واعتمد على أيديولوجية رسمية سائدة وعلى جبهة وطنية، يصير كل ما عداها خارجًا على الشرعية (الوطنية)، وعلى كاريزما القائد بديلًا عن مؤسسات الدولة فلم يبلغ الأفق الديمقراطي قط، لأن الممارسة الديمقراطية لا تتحقق في الواقع العملي إلا بتوافر المؤسسات اللازمة لضمان مشاركة سياسية فعلية، فإذا نجح المجتمع في تكييف المؤسسات القائمة اتجه إلى أن يصير نظامًا سياسيًا مشاركًا. أما إذا فشلت عملية التكييف فإنه يتحول إلى نظام جماهيري يقوم على التعبئة لا المشاركة.

أما الثاني: فهو نموذج الثقافة السياسية التلفيقية الذي نهض منذ نهاية السبعينيات وحتى 25 يناير 2011م، على المراوحة بين ثنائيات عديدة متقابلة لم يحسم الاشتباك بينها قط، حيث دار الصراع بين التعددية السياسية والتقييد السلطوي، بين ثقافة المشاركة وثقافة التعبئة، الأمر الذي فتح الباب أمام مرحلة جديدة من تطور النظام السياسي أهم سماتها الانتقال من سيادة مفهوم «الإجماع الشعبي»، إلى شكل من أشكال التعددية كان من شأنه صدور صحف لأحزاب معارضة وإدخال مفهوم المعارضة في النشاط البرلماني والانتخابات العامة، في موازاة الحديث عن ضرورة الانتقال من الشرعية السياسية «الثورية» إلى الشرعية الدستورية، حيث مرجعية القانون والمؤسسات.

كان ثمة أمل بأن تتحول التعددية المقيدة إلى تعددية حقيقية تعكس تباينًا في مراكز القوة السياسية، وتتيح إمكانية تبادل السلطة، غير أن عقودًا ثلاثة، شهدت موجتين ديمقراطيتين عالميتين، مرتا من دون أن تتجاوز تلك التعددية المقيدة نفسها إلى تعددية حقيقية.

ولعله صحيحًا أن العقود الثلاثة شهدت نوعًا من الاستقرار السياسي، ولكنه ليس ذلك الاستقرار النابع من رسوخ التوازن بين مؤسسات النظام، وبين القوى المجتمعية الفاعلة، على نحو يعبر عن قبولها للنظام العام ويضمن لها التأثير في صنع القرار الوطني، بل هو الاستقرار المؤسس على تجميد السياسة نفسها كفعل وحركة ونشاط، واستبدالها بالإعمال المفرط لقانون الطوارئ، والإشراف الأمني على شتى مجريات الواقع السياسي بدءًا من انتخابات اتحادات الطلاب الجامعية، وحتى النقابات المهنية، وصولًا إلى التغلغل العميق داخل الأحزاب السياسية، ومحاولة تدجين قياداتها، أو بث الخصومة وإشعال النار بين المتنافسين داخلها بقصد شل حركتها وتعريتها أمام أنصارها والمجتمع السياسي كله.

وزاد من وطأة تغوّل الدولة على المجتمع، محاولتها اصطناع طبقة جديدة من رجال المال والأعمال، كقاعدة لها على حساب الطبقة الوسطى بالذات، ما أدى إلى ذبول الزعامات المجتمعية الحقيقية، وأعاق تمثيل التيارات الفكرية والسياسية الفاعلة في المجتمع داخل مؤسسات النظام تحت ضغط الإقصاء واليأس لصالح جماعات مصلحة هي خليط من الفساد، والبيروقراطية، ما أدى أخيرًا إلى موت السياسة، بانطفاء الزعامات الكبرى التي توالت على مصر الحديثة، أقله منذ العصر الليبرالي وحتى نهاية عصر الرئيس السادات، وربما بدايات عصر مبارك، حتى صارت مصر أشبه بجسد ضخم دون رأس.

وعندما هبت عاصفة 25 يناير بفعل حركات شبابية، كانت النخبة السياسية قد تآكلت فعليًا، أو شوهت تمامًا بفعل خدمتها للنظام السابق، أو تفاعلها الزبائني مع أعمدته. وما زاد الطين بلة، والأمر تعقيدًا أن الكثيرين من قادة الرأي في مصر، خصوصًا في الإعلام المرئي، حاولوا شيطنة ما تبقى صالحًا أو قابلًا للإصلاح من أطراف هذه النخبة، داعين إلى إبعادهم عن الثورة حتى لا يقوموا بسرقتها من أصحابها، مع استحسان مقولة أن الثورة بلا قائد، وما يترتب على ذلك من هجاء لأي محاولة اقتراب الشخصيات الكبيرة أو الأحزاب القائمة من الثورة، كأن هؤلاء أتوا من عالم شيطاني، وكأن القيادة أمر معيب، أو أن السياسة رجس من عمل الشيطان، وأن التحام الساسة بالثورة سوف يدنس طهرانيتها، وهو أمر دل على نقص في المعرفة أحيانًا، وعلى نفاق شخصي حينًا آخر، وعلى رغبة في تحييد قوى بذاتها أو أشخاص بعينهم حينًا ثالثًا.

فإذا ما تراجعت هذه القوى، الحائزة خبرة القيادة، أمام شباب الثورة الذي أدى جموحهم الشديد، والنقص الواضح في خبرتهم إلى توريطهم والتيار المدني في صراعات عبثية مع الجيش بلغت أحيانًا حدًا دمويًا، فمن الذي يتقدم؟. لقد تقدمت الجماعة ونجحت في السيطرة على عقل الجيش، فكانت خريطة الطريق المعكوسة التي أودت بنا إلى 30 يونيو.

بعد الثلاثين من يونيو، بدت مصر أكثر نضجًا، فشباب حملة تمرد رغم أهمية الدور الذي لعبوه، وتصدرهم لمشهد الثالث من يوليو، بدوا أكثر هدوءًا بالقياس إلى أعضاء حركة 6 إبريل مثلًا بعد 25 يناير، كما تصرفوا إزاء القيادات الكبيرة، كالبرادعي، بمعقولية أكبر قبل أن يعود ويخذلهم.

غير أن الرجل لم يكن خائنًا كما يسعى البعض لتصويره، بل كان أمينًا مع نفسه، صادقًا مع تكوينه كرجل دبلوماسية ربما كان من طراز رفيع، ولكنه ليس رجل دولة من ذلك الطراز القادر على مواجهة استحقاقات لحظات تأسيسية صعبة ومراحل انتقالية معقدة. وهنا تبدى طريق ثالث وسهل، يتمثل في الحنين إلى (مخلص سياسي)، يتمثله كثيرون في صورة الفريق أول عبد الفتاح السياسي، الذي بات قادرًا وحده على حشد الناس حوله، كما صار مطالبًا بمواجهة الضغوط الواقعة عليه، والتي ينبع أولها من الفراغ البادي في القيادة السياسية. وثانيها من المطالبات النخبوية وليس فقط الشعبوية بلعب هذا الدور الخلاصي.

وثالثها من نزعات النفس الداخلية، الأمارة بالسياسة، والطامحة إلى الرئاسة. إنها رئاسة مستحقة بلا شك، بعد أن تحول الرجل إلى بطل للوطنية المصرية في عيون الجماهير، ولكن أوانها لم يأت بعد، واستدعاؤها على وجه السرعة قد يكون مربكًا للمشهد السياسي، ومعطلًا لعملية إعادة بناء الجيش المصري .
الجريدة الرسمية