حرية أيه اللي أنتوا بتقولوا عليها دي؟!
أحكي لكم أولاً ما أقصده بالسؤال عنوان المقال، بمثال أقرب إلى الشباب. حيث يُحكى أن شاباً طلب من والده أن يكون له "عربية" (الكلمة مقصودة هكذا باللكنة المصرية وتعني "سيارة")، وألح عليه، حتى جاء اليوم المشهود. فجاءه والده يوماً وقال له، أنه أتى له "بالعربية"، وأنه عليه أن يأتي ببقية مُستلزماتها. فرح الشاب وذهب ليُشاهد "العربية"، فاذا بها "عربة كارو"، وكان عليه أن يأتي بحمار ليجرها!! عاد الشاب لوالده، وسأله إن كان يسخر منه، فرد عليه والده، وقال له، أنه طلب "عربية" دونما تحديد لنوعها، وتلك "عربية" وفقاً للتعريف العام!!
لقد وقف الكثيرون في ميدان التحرير وغيره منذ يوم 25 يناير 2011 إلى 11 فبراير 2011، يطالبون "بالحرية" (العربية في المثال السابق)، ضمن أمور أُخرى، دونما تحديد لمعناها. وكان كل فصيل ممن يقفون هناك يحلم "بحرية من نوع خاص". وكانت "حُريات" الفصائل المختلفة في الميدان، تتضارب كلياً (كل واحد منهم يملك "حماراً" مختلفاً لجر العربة الكرو). إلا أنهم لم يبذلوا المجهود وقتما كانوا متفقين في الميدان، في تعريف تلك الحرية، فما كان إلا أن وصلنا إلى المشهد الحالي "المُرتبك"، حيث الفصائل تقف ضد بعضها البعض، ولدينا "عربة كارو" يجرها أكثر من حمار وفي إتجاهات متاضدة!! لقد أضروا أنفسهُم بأنفسِهم، بغياب التعريفات الواجب توافرها بدايةً لتحديد الهدف النهائي، فتاه الهدف كُلياً، كما هو باد!!
وفي ذاك المشهد المُرتبك، تجد تطبيقات تعريف الحرية بتطرف ظاهر أيضاً، حيث يرى البعض أنه بامكانه أن يأخذ القانون بيده ويطبقه كيفما إرتأى له، فيسب من يوصف بأنه "شيخاً"، عموم الناس من قنوات توصف بأنها "دينية" (مجازاً)، أو يذهب شباب "الألتراس" فيحيلون مناطق كاملة إلى الخراب ويتعدون على أجهزة الدولة، أو تخلع أُنثى ملابسها وتصور عارية، وتقول أن تلك هي الحرية، بل تسلُب "جماعة محظورة" الوطن كله وتكتب دستور في الظلام وتمرره بموافقة أقلية شديدة من الشعب المصري، وكل هذا بأسم الديمقراطية والحرية، بينما لا يمت للحرية أو الديمقراطية بصلة تُذكر، إلا إن كان الأمر هو إعمالاً للفوضى!!
أما الغريب في مشهد المُطالبة بالحرية، فهو أن هناك من يستنكر الحرية على غيره، حيث ترى من يُقال عنهم "ليبراليين"، يرفضون "الحرية" التي مُنحت لغيرهم من المُتأسلمين ويصفونهم بأنهم "مُتخلفين". ويرفض "المُتأسلمين" الحرية التي مُنحت لمدنيين، ويصفونهم بأنهم "كُفار". أما قمة البله في المشهد الحالي، فهو "منع" من يُطلق عليهم لقب الفلول من الحرية، من قبل المُتأسلمين. وبالطبع فان سبب "العزل السياسي"، ليس فساد "الفلول" كما يدعي المتأسلمين، ولكن معرفتهم بأن الفلول لو ترشحوا في أية إنتخابات فانهم سيطيحون بهم، لأن الناس أصبحت تشهد منذ أمد على فساد "حملة المباخر" هؤلاء، بالتأكيد!!
لقد إكتسب "الفساد الجديد" للمُتأسلمين الشرعية، من جراء أحداث السنتين الماضيتين وبسبب تلك الحرية "غير المُعرفة". وسماته الأساسية، تتمثل في خلط الدين بالسياسة وتلويث ذاك الدين ممن لا حدود أخلاقية لديهم، بسبب شهوة لديهم في السلطة. كما أن الكثيرين يُمكنهم من خلال هذا "الفساد الجديد" أن يلوثوا سُمعة أي شخص، كما يروق لهم. وتُروج الكثير من الأكاذيب، على أنها حقيقة!!
وقد أُلقيت الكثير من الأفكار في المجتمع، حول تلك الحرية، حتى أن الكثير من البُسطاء، لما صدموا من الأفكار الغريبة عليهم، ألقوا بأنفسهم سريعاً في أحضان المُتأسلمون، هرباً من تلك الأفكار التي تصطدم مع موروثهم الثابت. فلقد إستمعوا لمن يُكلمهم عن حرية الشواذ أو عن حرية زواج مختلفي الدين أو عن جواز تغيير الدين دون مشاكل. وهي جميعاً مسائل "شخصية" لا يجب وأن يتدخل فيها المُشرع، ويجب أن تُترك لحرية الناس. فالعيب فيمن يتكلم بالليبرالية، هو أنه لا يُدرك "النفسية المُجتمعية" التي يتحدث بها، ويناقش تفاصيل، لا تهم الأغلبية في مصر، بل لا تهم الليبرالي المصري أساساً. إن العيب ليس في المُتلقي هنا، ولكن فيمن لم يُقدرُ ذهنيته!! إن المشكلة ليست في "حزب الكنبة"، ولكن في "حزب المغيبين في الميدان" وقادتهم ونُخبهم!!
ولا أخفيكم سراً، حيث كنت أشعر حينما يطرح المُعسكر الليبرالي، أفكاره "المتطرفة" تلك، أنه يلعب لصالح "المتأسلمين" بقوة، وأن فكرة "المؤامرة" حقيقية بشدة. فلا يُمكن أن يكون من يدعون "الليبرالية"، بهذا القدر من "الغباء"، بحيث يجعلوا أغلب من في الشارع يقفون ضدهم بتلك الطريقة. ويأتي العابدين في محرابهم ليقولوا دفاعاً عنهم: "معلش أصلهم ما بيفهموش في السياسة!!"، وأرد: "ولما البُعاد حمير في السياسة، بيتكلموا فيها ليه؟!! دول مش بيفهموا في مصر، مش بس في السياسة .. الله يخرب بيوتهم!!"
المُشكلة الأساسية، في مسألة الحرية تلك، أن الجميع يرى الجميع، .. بينما يظن البعض أنه يكلم جمهوره فقط. وهنا يجب أن أُذكر بعض السياسيين، من الجانبين: "على فكرة، وإن كنتم لا تعرفون: فيه إختراعات أسمها "تلفزيون" و"نت" (بها يوتيوب) وموبايل ينقل أي صورة وكليب أو خبر في دقائق معدودة، ويكفي ما نُقل عن الشيخ بُرهامي، من إعترافه "بخداع" المصريين، وهو أمر يُخالف الشريعة بالطبع"!!
على الجميع أن يعرف، أن الحرية المنشودة يجب وأن تكون حرية معتدلة، لا تتدخل في المسائل الشخصية، ولا تضُر بالمجتمع وقيمه والأديان فيه!! إنها حرية تُمنح للجميع في إطار القانون المُتفق عليه بين أطياف الشعب كله ولا تُميز بين الناس، ولا تُمنح فقط لفصيل واحد يتفق في ساعات الفجر الأولى على دستور للجميع بالإكراه وليس بالرضا!! الحرية، ليست "عربة كارو" وكل شخص يأتي بحماره ليجُرها بالطريقة التي تروق له وفي إتجاهات مختلفة، لتتدمر العربة في النهاية وتزلزل الأرض التي تمشي عليها!! نريد أن يجر العربة، حصان واحد، يُشكل إجماع الأمة، ومن ثم نكون قد وصلنا إلى تعريف حقيقي للحرية التي نُريدها للجميع في الوطن!!
والله أكبر والعزة لبلادي
وتبقى مصر أولاً دولة مدنية