رئيس التحرير
عصام كامل

حرية إيه اللى انتوا بتقولوا عليها دى؟!


أحكى لكم أولاً ما أقصده بالسؤال عنوان المقال بمثال أقرب إلى الشباب.. حيث يُحكى أن شاباً طلب من والده أن يكون له "عربية" (الكلمة مقصودة هكذا باللكنة المصرية وتعنى "سيارة")، وألح عليه حتى جاء اليوم المشهود فجاءه والده يوماً وقال له إنه أتى له "بالعربية"، وأنه عليه أن يأتى ببقية مُستلزماتها فرح الشاب وذهب ليُشاهد "العربية"، فاذا بها "عربة كارو"، وكان عليه أن يأتى بحمار ليجرها!! عاد الشاب لوالده وسأله إن كان يسخر منه فرد عليه والده، وقال له إنه طلب "عربية"، دونما تحديد لنوعها وتلك "عربية" وفقاً للتعريف العام!!

لقد وقف الكثيرون فى ميدان التحرير وغيره منذ يوم 25 يناير 2011 إلى 11 فبراير 2011، يطالبون "بالحرية" (العربية فى المثال السابق)، ضمن أمور أُخرى دونما تحديد لمعناها، وكان كل فصيل ممن يقفون هناك يحلم "بحرية من نوع خاص"، وكانت "حُريات" الفصائل المختلفة فى الميدان تتضارب كلياً (كل واحد منهم يملك "حماراً" مختلفاً لجر العربة الكرو)، إلا أنهم لم يبذلوا المجهود وقتما كانوا متفقين فى الميدان فى تعريف تلك الحرية، فما كان إلا أن وصلنا إلى المشهد الحالى "المُرتبك"، حيث الفصائل تقف ضد بعضها البعض ولدينا "عربة كارو"، يجرها أكثر من حمار وفى اتجاهات متاضدة!! لقد أضروا أنفسهُم بأنفسِهم بغياب التعريفات الواجب توافرها بدايةً لتحديد الهدف النهائى، فتاه الهدف كُلياً كما هو باد!!
وفى ذاك المشهد المُرتبك، تجد تطبيقات تعريف الحرية بتطرف ظاهر أيضاً، حيث يرى البعض أنه بإمكانه أن يأخذ القانون بيده ويطبقه كيفما ارتأى له، فيسب من يوصف بأنه "شيخاً"، عموم الناس من قنوات توصف بأنها "دينية" (مجازاً)، أو يذهب شباب "الألتراس" فيحيلون مناطق كاملة إلى الخراب ويتعدون على أجهزة الدولة، أو تخلع أُنثى ملابسها وتصور عارية، وتقول إن تلك هى الحرية، بل تسلُب "جماعة محظورة" الوطن كله وتكتب دستورا فى الظلام وتمرره بموافقة أقلية شديدة من الشعب المصرى، وكل هذا باسم الديمقراطية والحرية، بينما لا يمت للحرية أو الديمقراطية بصلة تُذكر، إلا إن كان الأمر هو إعمال للفوضى!!
أما الغريب فى مشهد المُطالبة بالحرية، فهو أن هناك من يستنكر الحرية على غيره، حيث ترى من يُقال عنهم "ليبراليين"، يرفضون "الحرية" التى مُنحت لغيرهم من المُتأسلمين ويصفونهم بأنهم "مُتخلفين"، ويرفض "المُتأسلمين" الحرية التى مُنحت لمدنيين ويصفونهم بأنهم "كُفار". أما قمة البله فى المشهد الحالى فهو "منع" من يُطلق عليهم لقب الفلول من الحرية من قبل المُتأسلمين، وبالطبع فإن سبب "العزل السياسى"، ليس فساد "الفلول" كما يدعى المتأسلمين، ولكن معرفتهم بأن الفلول لو ترشحوا فى أية انتخابات فإنهم سيطيحون بهم لأن الناس أصبحت تشهد منذ أمد على فساد "حملة المباخر"، هؤلاء بالتأكيد!!
لقد اكتسب "الفساد الجديد"، للمُتأسلمين الشرعية من جراء أحداث السنتين الماضيتين وبسبب تلك الحرية "غير المُعرفة"، وسماته الأساسية تتمثل فى خلط الدين بالسياسة وتلويث ذاك الدين ممن لا حدود أخلاقية لديهم، بسبب شهوة لديهم فى السلطة، كما أن الكثيرين يُمكنهم من خلال هذا "الفساد الجديد" أن يلوثوا سُمعة أى شخص، كما يروق لهم. وتُروج الكثير من الأكاذيب، على أنها حقيقة!!
وقد أُلقيت الكثير من الأفكار فى المجتمع حول تلك الحرية، حتى إن الكثير من البُسطاء لما صدموا من الأفكار الغريبة عليهم، ألقوا بأنفسهم سريعاً فى أحضان المُتأسلمين هرباً من تلك الأفكار التى تصطدم مع موروثهم الثابت. فلقد استمعوا لمن يُكلمهم عن حرية الشواذ أو عن حرية زواج مختلفى الدين أو عن جواز تغيير الدين دون مشاكل. وهى جميعاً مسائل "شخصية"، لا يجب أن يتدخل فيها المُشرع ويجب أن تُترك لحرية الناس، فالعيب فيمن يتكلم بالليبرالية هو أنه لا يُدرك "النفسية المُجتمعية"، التى يتحدث بها ويناقش تفاصيل لا تهم الأغلبية فى مصر، بل لا تهم الليبرالى المصرى أساساً.. إن العيب ليس فى المُتلقى هنا ولكن فيمن لم يُقدرُ ذهنيته!! إن المشكلة ليست فى "حزب الكنبة"، ولكن فى "حزب المغيبين فى الميدان" وقادتهم ونُخبهم!!
ولا أخفيكم سراً، حيث كنت أشعر حينما يطرح المُعسكر الليبرالى، أفكاره "المتطرفة" تلك، أنه يلعب لصالح "المتأسلمين" بقوة، وأن فكرة "المؤامرة" حقيقية بشدة. فلا يُمكن أن يكون من يدعون "الليبرالية"، بهذا القدر من "الغباء"، بحيث يجعلوا أغلب من فى الشارع يقفون ضدهم بتلك الطريقة. ويأتى العابدون فى محرابهم ليقولوا دفاعاً عنهم: "معلش أصلهم ما بيفهموش فى السياسة!!"، وأرد: "ولما البُعاد حمير فى السياسة، بيتكلموا فيها ليه؟!! دول مش بيفهموا فى مصر، مش بس فى السياسة .. الله يخرب بيوتهم!!
المُشكلة الأساسية، فى مسألة الحرية تلك، أن الجميع يرى الجميع، .. بينما يظن البعض أنه يكلم جمهوره فقط. وهنا يجب أن أُذكر بعض السياسيين من الجانبين: "على فكرة، وإن كنتم لا تعرفون: فيه اختراعات اسمها "تليفزيون" و"نت" (بها يوتيوب)، وموبايل ينقل أى صورة وكليب أو خبر فى دقائق معدودة، ويكفى ما نُقل عن الشيخ بُرهامى، من اعترافه "بخداع" المصريين، وهو أمر يُخالف الشريعة بالطبع"!!
على الجميع أن يعرف أن الحرية المنشودة يجب أن تكون حرية معتدلة لا تتدخل فى المسائل الشخصية، ولا تضُر بالمجتمع وقيمه والأديان فيه!! إنها حرية تُمنح للجميع فى إطار القانون المُتفق عليه بين أطياف الشعب كله ولا تُميز بين الناس، ولا تُمنح فقط لفصيل واحد يتفق فى ساعات الفجر الأولى على دستور للجميع بالإكراه وليس بالرضا!! الحرية ليست "عربة كارو"، وكل شخص يأتى بحماره ليجُرها بالطريقة التى تروق له وفى اتجاهات مختلفة لتتدمر العربة فى النهاية وتزلزل الأرض التى تمشى عليها!! نريد أن يجر العربة حصان واحد يُشكل إجماع الأمة، ومن ثم نكون قد وصلنا إلى تعريف حقيقى للحرية التى نُريدها للجميع فى الوطن!!
والله أكبر والعزة لبلادى
وتبقى مصر أولاً دولة مدنية
الجريدة الرسمية