رئيس التحرير
عصام كامل

هاجس الكلمة


حين أرفع قلمى لأكتب لا أحركه كريشة فى محبرة، يرتشف من مدادها قطرات ألون بها صفحات بيضاء، ولست مدمنة أسكر من خمر الكلمة فأهيم بأطيافها، وتحملنى على قاربها، وتبحر بى حيث لا مرسى، ولست أحلق بالكلمة وأسبح بها فى فضاء رحب بلا نهاية، وليست الكلمة ملكا أدخره لنفسى، لألبى رغباتى وأشبع احتياجاتى وأحقق أطماعى ومصالحى الشخصية..

وأنا أكتب أكتب أشعر بأن للحرف، وللكلمة، وللجملة صوتا وروحا وحياة، لها أفراح ومسرات لها أحزان وأنَّات، وتتنفس الهواء عليلا كما نتنفسه، وتتغذى وترتوى كما هو شأننا ..
لقد اخترت قلمى واختارنى لنرحل سويا رحلة الحياة، ونجول معا جولات فى عالم الفكر والوجدان، وندون على صفحات بيضاء نقية ما ينتجه العقل والإحساس من أفكار، ومواقف، وأحداث، وقضايا، ونرسم خطوطها وألوانها فى أجمل صورة من الإبداع الفنى فى تركيب الجمل، والتعبير عنها بلغة عربية أصيلة، وأسلوب يطرق أبواب القلوب بلا استئذان، ويخاطب القلب والعقل والضمير والجوارح، ويبعثها من رُقادها فتقبل على القراءة حبا واختيارا للعقل الذى أبدع فى تحريك القلم وترتيب الجمل، وصياغة الفكرة، وضَمِّ الصورة فى تناغم فريد ..
إننى أكتب لأعبر عن المبدأ الذى أؤمن به، والقيم والفضائل والأعراف والتقاليد التى تربيت عليها، فالقلم بالنسبة لى سفير يمثلنى ويمثل المجتمع والأمة التى أنتسب إليها، ويعبر عن عقيدتى ومذهبى وطريقة تفكيرى وثقافتى وذوقى، كما يعبر عن شخصيتى، وعن ذاتى وهويتى، إنه صوتى الهادئ والصارخ، وصوتى الخجول والمتمرد الثائر، إنه صوتى حين يغرد فيشجينى ويطرب من حولى..
وأنا اكتب أشعر بأننى أكلم نفسى وأكلم كل الناس على اختلاف طبقاتهم، أحاورهم، أناقشهم، أشاركهم حياتهم بكل تفاصيلها، وألتقى معهم على مساحة حرة، نتحرك سويا، نتقاسم الهموم والمشاكل والقضايا، ونتحدث عن الماضى بذكرياته وعبق تاريخه، وعن الحاضر بواقعه وأحداثه، وعن المستقبل بتطلعاته وأهدافه وأحلامه ..
وأنا اكتب أشعر بأن للقلم قيمة عظيمة، تلزمنى مسئولية الارتقاء بفكرى وأسلوبى ولغتى وثقافتى، لإنتاج ما يستحق أن نسميه إنتاجا علميا جديدا، جِدَّته تظهر فى فكرته وطرحه كما فى اختيار موضوعه، وتوجيه مقصده، وخطابه فى شموليته ..
وأنا أكتب أشعر بأن على أن أتحرر من تخصصى وأسعى للتوفيق بينه وبين تخصصات أخرى، وأن أسعى بكلمتى وقلمى لأخاطب مختلف فئات المجتمع، أكتب للطفل الصغير وأعبر بلسانه، وأكتب للشاب فى قوته ونشاطه وحيويته، وأكتب للكهل فى نضجه وسمو فكره واتزانه، وأكتب للشيخ فى حكمته وتنوع تجاربه، وأكتب لكل الأعمار، وأخاطب جمهورا عالميا من القراء، وأن أسعى لألبى أذواقهم على قدر استطاعتى ومجهودى وإمكاناتى، وأن أنصت لصوت أنينهم لحظات الآلام والوجع، ولصوت فرحتهم لحظات النشوة والبهجة..
إن الذى يحمل هاجس الكلمة إنسان كرمه الله وشرفه، واختاره ليكون خليفته على الأرض، فمن واجبه أن يخلد بكل حرف أو كلمة تاريخا وعلما ينتفع به الناس، فيظل اسمه مشرقا فى قلوب الناس، لأنه عَلَّم جمهور قرائه بأن نجاح الكاتب رهين بأن يبلغ رسالته بصدق وأمانة، وحينما يصنع بقلمه بعثا جديدا لأقلام تحمل رسالة، وتنجب أقلاما جديدة، ناطقة بلسان الأمة وتاريخها.
الجريدة الرسمية