تدمير مصر الجديدة !
انهمك الوطنيون المصريون فى مطلع القرن العشرين، فى تأسيس حراك مجتمعى فاعل، للحاق بموجات التقدم الغربية المتوالية فى كل المجالات، فظهر الزعماء والرواد، كلٌ فى مجاله، فبينما دعا محمد عبده لإصلاح الأزهر، ونبذ المفاهيم البالية الدخيلة على صحيح الدين، تأسست الجامعة المصرية، للأخذ بالمناهج الحديثة للدراسة والتعليم.
وفى الوقت الذى تعالى فيه دور السياسيين المصريين سعياً لاستقلال البلاد، تنامى دور الاقتصاديين للإمساك بزمام اقتصاد بلدهم، وتأسيس الكيان المالى لمؤسساته، فظهر طلعت حرب وغيره، ليقودوا موجة التصنيع والإنتاج وإدارة وتعظيم رأس المال المصرى ، وعَبَّرَ واقع الحالة العمرانية فى مصر عن كل ذلك الطموح والتقدم، فتأسست مجتمعات عمرانية جديدة، تأخذ بنظريات التخطيط الحديثة، وتطبق المعاصرة ومفاهيم الحداثة، وتمسك فى ذات الوقت بالأصالة والتراث، فظهرت واحة "هليوبوليس" بتخطيطاتها الجميلة، ومبانيها المميزة لتشكل حالةً عمرانية فريدة، فكانت جديرة بأن يطلق عليها المصريون (مصر الجديدة)، لأنها مثلت بالفعل تلك الحالة الوطنية الطامحة للتقدم والازدهار، وكرستها فى ذاكرة المصريين.
وبينما كان يتم الاغتيال المنهجى لكل عوامل تقدم المجتمع المصرى، الذى تأسس على أيدى وطنييها من الرواد الأوائل بواسطة أعداء الخارج وخونة الداخل، كانت مصر الجديدة تتعرض دوماً للتدمير والتخريب، لأنها ترمز لتلك القيمة والمعنى وترتبط به، لقد استولوا على قصورها ومبانيها التراثية الرائدة فتحولت إلى مدارس متكدسة بالتلاميذ، فتم تدمير تفاصيلها المعمارية، وشاركت الإدارات الحكومية فى مسلسل التدمير، فاتخذت من كل المبانى المميزة بها مكاتب لها، وتم اغتيال فندقها العالمى الشهير (هليوبوليس بالاس) ذى السبعة نجوم، والذى كان يحوى أكثر من "500" غرفة، ليكون مقراً للحكم، ليعلو بأسواره ويضرب الفراغ المعمارى المحيط به فى مقتل.
وبينما نستيقظ كل يوم على أصوات المعاول الهادمة للڤيلات والقصور فيها، تنتابنا تلك الحالة من الإحباط والحزن على مصيرها الذى آلت إليه، إنه مصير مصر كلها، التى طالتها أيدى التدمير والهدم بأيدى أصحابها أو الذين يدَّعون أنهم أصحابها.