رئيس التحرير
عصام كامل

ثورة من أجل الخضوع


ما أصعب أن تحيا في وطن يرى الآخرون أنه يعيش على المنح والمساعدات، وما أصعب أن ترى دولا تعاير وطنك بالمساعدات، وما أصعب أن تتكالب عليك الأمم لأنك لا تصنع قوت يومك، وأنت من أنت؟!


ألسنا نعيش في مصر التي قال عنها المسعودى "إن كل قرية من قرى مصر تصلح أن تكون مدينة على انفرادها"؟ وما الذي حولنا بين محتل ومحتل إلى مصر التي تصلح كل مدينة فيها لأن تكون قرية حقيرة؟

ألسنا نعيش في مصر التي قال عنها القضاعى "لم يكن في الأرض ملك أعظم من ملك مصر ولو ضرب بينها وبين سائر قرى الدنيا سور لاستغنى أهلها بما فيها عن سائر البلاد، ولو زرعت كلها لوفت بخراج الدنيا بأسرها"؟ وما الذي حولنا بين غاصب وطنى ومحتل أجنبى لأن نصبح عالة على الآخرين ومتسولين على قارعة الخريطة الدولية، ومتطلعين إلى إحسان المحسنين، وكأنما الأرض غير الأرض والناس غير الناس، تقوم ثورات وتذهب ثورات ونحن على عهدنا بالتفريط في كرامتنا ماضون.

أولسنا من قيل فيهم "إن أهل مصر لا يهتمون بأمر الزاد كما هي عادة غيرهم من الأمم، كأنما حوسبوا وفرغوا من الحساب"؟ ولماذا أصبحنا بين عثرات التاريخ ومقالب الجغرافيا نبحث عن زادنا في قمامة الغرب وبقايا أمريكا منتهية الصلاحية.. هل سقطت منا جينات الإباء والكبرياء؟! هل ماتت فينا نخوة العطاء واستولت على أطرافنا رخوة الاستنطاع؟!.. هل سرى فينا سم زعاف قتل بيننا العفة وزرع الخضوع والخنوع؟!.. هل طردنا من دمائنا كرات العزة واستبدلناها بكرات الاستهانة والاستكانة والغباوة والبلادة؟!

لقد ظننت – كغيرى- أن شعبا استطاع أن يوقف الإرادة الدولية لاحتلالنا في يوم الثلاثين من يونيو الماضي، لقادر على أن يحيا وحيدا حتى لو ضربت بينه وبين سائر البلاد أسوار من نيران أو حوائط من صواريخ.. تصورت أن عزائمنا التي أسقطت المؤامرة التي التهمت بغداد وهضمت ليبيا ومضت بسهامها في سوريا، قادرة على إعلان حالة الاستقلال وإعلان حالة الحرب على الاستكانة والاستهانة وإعلان حالة الجوع الوطنى.. نعم، نحن الآن قبل أي وقت مضى قادرون على أن نجوع جوعا وطنيا خالصا.. نجوع لنبنى مجدا يتواصل مع تاريخنا.. قادرون على أن نصنع شبعا بالحمية الوطنية، فبالخبز وحده لا يحيا الإنسان.

ومن عجب أن تكون بشائر الطلع ليست تمرا مصريا ولا عسلا بنهاويا، من ذلك الذي طعمه سيدنا رسول الله هدية المقوقس إليه، ومن المثير أن ثمار زرعة ٣٠ يونيو تبدو وكأن هناك من يريد لها أن تكون ثمارا مرة، لا سكر فيها ولا كرامة لها ولا أمجاد، فكل الذين طرحتهم شجرتها حتى الآن خليط من مستكينين ومتبلدين وراغبين في انتظار المعونة، دون إدراك أن المعونة ملعونة، وأن لحظات ميلاد يوم مشرق في تاريخ الأوطان لا تولد كثيرا.

لا أعرف من ذلك الذي هزه أخبار انقطاع المساعدات الأوربية دون أن يسأل نفسه: منذ متى وكانت أوربا تعين الضعفاء؟!.. هل فعلت ذلك في القرن الماضى أو قبل الماضى؟! ولا أعرف ما هي مبررات من خشى انقطاع المساعدات العسكرية الأمريكية دون أن يسأل نفسه: منذ متى وأمريكا تريد أن يكون جيشنا قويا، صامدا، قادرا، مستقلا؟!

ألا تتذكرون الجسر الجوي الأمريكى الداعم لصهيونية تل أبيب في حربنا المجيدة في السادس من أكتوبر؟! ألا تتذكرون كيف كانت أوربا تعيش لحظات يُتم حزينة وجنودنا يدكون حصون العدو في ذات الحرب؟!

وأخيرا لا أعرف لماذا نسمح للطابور الخامس بأن يمتطى ثورة عظيمة ويدخل بها إلى وكر الإخضاع والإذلال والتفريغ، دون أن ندرك أننا إما أن نولد اليوم أمة عظيمة مهابة الجانب أو أن نحيا مرة أخرى على رصيف العالم نقتات من بقايا الأمم التي تستعبدنا لتسرقنا، ومن ثم تمنحنا بعضا من ثمار خيراتنا؟!
الجريدة الرسمية