فقر السنين
ــ كثيرًا ما أحاول الفرار من الغَمِّ والنكد فرار السليم من الأجرب.. بيد أن شيئًا ما يشدني إليه بقوة، وسرعان ما تخور مقاومتي، فأعود ثانية إليه مهزومًا مكسور الوجدان.
فيما يبدو أن فنان الكاريكاتير الكبير مصطفى حسين، قد أصاب عندما وصفني بأنني تجسيد حي لكل شخصيات نجيب الريحاني في أفلامه..أي باختصار "متعاص فقر"!.
غير أنني للحقيقة وتالله وبالله أبغض الغم والنكد بُغض التحريم، وأحسَبُنى من الباحثين عن البهجة والداعين إلى السرور، والابتسامة لا تفارق حَنَكى، حتى في "أحلك" الظروف، تقول لي إزاى؟ أقول لك وأنت مال "أحلَك"!.
ويسأل أحد الرُّخَماء.. وهل ترى فيما يحدث ما يستدعي فَشْخ حنكك، بعد أن فشخت المسائل في البلد إلى حد بات من الصعب لملمته؟!(بالمناسبة الحَنَك هو الفم أو البؤ).
الحقيقة أن السائل الرِّخِم عنده حق.. ذلك أننى أيضًا ممن لا يرون في الأفق بادرة انفراجة.. فهناك بين ظهرانينا (حلوة ظهرانينا) من يصر على فقع مرارتنا وفقع مواضع أخرى يستحيل علاجها سواء بالكمادات أو بالليزر أو بالحجامة أو حتى بلبخة الحاج مرعي الشافية المعافية!.
أعود وأكرر أن ذلك الرخم عنده حق، فرغم محاولات الهروب، اصطدمت بتصريح غير عاطفى للدكتور أيمن أبوحديد وزير الزراعة عن القمح، ولأنني من عشاق ومدمني البليلة، والبليلة من القمح، فقد دخلت رغمًا عني كالعادة دائرة النكد، لأن البليلة هي الوجبة الوحيدة التي أطمئن بها على بقائي على قيد الحياة.. ليس لأنها خفيفة على المعدة وحسب، بل لأنها خفيفة على الجيب أيضًا!.
حينئذٍ قررت الفرار من دائرة أبوحديد والقمح والبليلة، والعودة للعبث في بعض الصحف المبعثرة أمامي، ولأنني كما قلت "متعاص فقر" كان أول ما وقعت عليه عيناي تقريرًا عن الفقر في العالم الثالث.. "مُرْزَق" يا جدع!.
قرأت التقرير، ثم غنيت دون أن أدري "جاني منين الهوا وأنا قافل الشباك".. وإذا بروح المرحوم عم سيد البكيري أحد أروع شعراء العامية تحاصرني، وأتذكر قصيدته الرائعة بعنوان "ورقة بعشرين جنيه"، يحكى فيها قصة الجمعية التي قبضها وكانت الجملة عشرين جنيهًا وهو مبلغ محترم عزيز المنال على أشباه عم السيد وقتها، اقتطف منها هذه الأبيات.
وقبضت ورقة وكان فيها النقوش ألوان/ يا ريتنى في الرسم بافهم كنت أرسمها/ عشرين جنيه بالتمام جاتنى ووافِتنى/ من بعد حرمانى لما الدنيا قرفتنى/ مش ممكن أنسى ساعة ما إيديا مسكتها/ وعملت ترباس على الأوضة وسكيتها/ من يومها وأنا نازل صلاة وصيام / وأدعى بإخلاص إلهى ما الْقَى فَكِّتها.
في ظنى لو أمد الله في عمر عم سيد البكيري إلى زمن الورقة المرحرحة أم 200 جنيه، كان عملها "صديري"!.
إلى المتعاصين فقر في ربوع الوطن.. اضحكوا.. إنشا الله تِوْلَع.
نقلا عن جريدة "فيتو".