"دستور فالصو"
الدستور المصرى المقترح "فالصو"، وهذه كلمة يفهمها كل المصريين، فالمسوَّدة "فالصو" كالذين كتبوها ومثلها الاستفتاء اليوم والذين يقفون وراءه.
مع ذلك أعترف بأننى أراجع أحداث مصر، فأتذكر أشياء عن تاريخ أميركا ودستورها ورؤسائها، مثل أبراهام لنكولن.
أشهر خطاب فى تاريخ أميركا المستقلة ألقاه لنكولن فى بيتسبرغ فى 19/11/1863، فحمل اسمها، وأشهر عبارة فى الخطاب كانت حديثه عن الحكومة، وقوله حكومة من الشعب وبالشعب "أى جاءت عن طريقه"، وللشعب "أى لخدمته". والنموذج المصرى الحالى هو دستور من الإخوان وبالإخوان وللإخوان، وكان الله يحب المحسنين.
ماذا تغيّر فى مصر؟ إذا كانت الشكوى قديمًا من ديكتاتورية نظام مبارك، فهى اليوم من ديكتاتورية جماعة الإخوان المسلمين. وإذا كان حسنى مبارك ضمن لنفسه برلمانًا طيّعًا يحميه من ملاحقة قانونية، فإن محمد مرسى انتزع لنفسه حماية من الملاحقة نفسها قبل أن يتراجع تحت ضغط الشارع عن بعض السلطات الديكتاتورية التى قرر أن يمارسها. وكان فى مصر فساد كبير أيام حسنى مبارك، وهو والحمد لله انخفض أيام حكم الجماعة، من دون أن يكون لها أى دور فى خفضه، فما حدث هو أنه لم يبق من مصر شىء يُسرق. ثم هناك الخلاف مع القضاة، فقد اختلف حسنى مبارك مع عشرة فى المئة منهم، واختلف الإخوان مع 90 فى المئة يقاطعون النظام وما يمثل.
حكم الإخوان نجح فى أن يحقّق خلال ثلاثة أشهر فقط ما احتاج حكم مبارك إلى 30 سنة لإنجازه، أى فرض حكم ديكتاتورى يمثّل حزبًا واحدًا، ولن أقول إن غالبية مصرية تعارضه، فهذا رأى، وإنما أعتمد على معلومة لا ينكرها سوى سلفى مصرى من نوع حازم صلاح أبو إسماعيل، الذى لا يزال ينكر أن والدته حملت الجنسية الأميركية. المعلومة هى أن نصف المصريين صوّتوا مع مرشح الإخوان ونصفهم صوّت ضده، والدكتور مرسى يحاول الآن أن يفرض على النصف المعارض دستور الإخوان والسلفيين، أى القضاء على أى أمل للمصريين بمواكبة العصر، والقضاء على أملنا نحن العرب المساكين بأن نسير وراء مصر فى طريق الديمقراطية والعصرنة والرخاء.
أريد أن أُدخِل على هذا المقال فقرة معترضة، فمقابل نصف المصريين الذين بدؤوا يترحمون على نظام حسنى مبارك، هناك السوريون الذين يواجهون نظامًا يقتل أبناء الشعب، ويدمّر أعظم مدينتين فى تاريخ العمران البشرى، دمشق وحلب، على رؤوس أهلهما، ويفترض أن أى نظام يخلف النظام الحالى سيكون أفضل منه، ولكن هل هذا صحيح؟ هناك "ائتلاف الخارج" الذى تعترف به غالبية العالم، ويضم بعضًا من خيرة السوريين مع سقط ومتطرفين، إلا أن المعارضة المسلحة على الأرض ليست معارضة الخارج، ففيها أيضًا مقاتلون وطنيون خالصون، ثم هناك متطرفون وإرهابيون، وأخشى يومًا يتحسّر فيه السوريون على نظام بشار الأسد.
أعود إلى مصر، وقد شهدتُ بنفسى بعض الاعتداءات على شباب الثورة فى ميدان التحرير، ونظام مبارك فى أيامه الأخيرة، ومَنْ مِنَ المصريين لا يذكر "موقعة الجمل"، وضحايا شارع محمد محمود. اليوم هناك ملثمون إما من الجماعة أو "بلطجية" يعملون بأجر معلوم يهاجمون المتظاهرين فى ميادين القاهرة، وحول مقر رئاسة الجمهورية.
أين جيش مصر الذى يُفترض أن يكون حامى الشعب والديمقراطية؟ الجيش الجديد لم يستطع أن يعقد اجتماعًا توافقيًّا، وأشكر الإخوان المسلمين أنهم جعلونى أتمنى انقلابًا عسكريًّا للمرة الأولى فى حياتى. لو تسلّم جيش مصر الحكم طوعًا أو قسرًا لربما سامحه الشعب على "ارتكاب" انقلاب 1952، فقد كان هناك ملك عنده جهاز شرطة سرية واحد ويحميه قانون العيب فى الذات الملكية، وجاء نظام على رأسه رجل سارت الأمة كلها لا مصر وحدها وراءه، فأقام نظامًا ديكتاتوريًّا مع تأميم الفكر والصناعة والتجارة، فنُكبت مصر، وقلّدها العرب ليُنكبوا بدورهم، ولا نزال جميعًا ندفع الثمن، والفارق الوحيد بعد أشهر من حكم الإخوان أن سعر الفاتورة ارتفع، فى حين هبط المردود أو فَسَد.
لا أريد أن أغلق الأبواب، وأرى أن الفرصة لا تزال متاحة لإصلاح الأخطاء المتتالية لحكم الجماعة فى مصر. المصريون انتخبوا محمد مرسى رئيسًا لا المرشد محمد بديع، وعلى الرئيس أن يتصرّف باستقلال تام عن الجماعة، وبما أنه مؤمن فهو لا يريد أن يُتّهم بأنه يتصرّف كمن أخذته العزّة بالإثم. رأينا مصير رؤساء عرب كثيرين فى السنتين الأخيرتين، وسيتبعهم الرئيس السورى قريبًا، إلا أننى أريد للرئيس محمد مرسى نجاحًا تقطف ثماره مصر والأمة.
نقلًا عن "الحياة اللندنية"