رئيس التحرير
عصام كامل

جماعات العنف الديني تتصدر واجهة المشهد بعد انهيار "مشروع الإخوان".. جريمة "رفح" لن تكون النهاية.. التنظيمات الجهادية تصطاد جنود الجيش والشرطة ردًا على اعتقال "أمراء الإرهاب".. والمراجعات "حبر على ورق"

جثامينشهداء مجزرة
جثامين"شهداء مجزرة رفح الثانية"-صورة أرشيفية


فتحت جريمة قتل الجنود المصريين - التي راح ضحيتها أمس 25 مجندا بالأمن المركزى - في هجوم مسلح قرب مدينة الشيخ زويد شمال سيناء، الباب واسعا أمام تصاعد المخاوف من عودة الإرهاب المنظم، الذي يستند إلى مرجعية دينية متشددة، خاصة مع بروز أسماء التنظيمات "الجهادية" بشكل صريح في مصر بعد غياب استمر أكثر من عقدين، على خلفية المراجعات التي قامت بها الجماعة الإسلامية في تسعينيات القرن الماضى، في ضوء انهيار مشروع حكم الإخوان لمصر بعد عزل الرئيس محمد مرسي وما أنتجه ذلك من أعمال عنف.


كانت تلك المراجعات قد جاءت في سياق التغييرات الكبرى التي وقعت على المستويين الإقليمي والمحلي، والتي شكلت ضغطًا كبيرًا على نظام الرئيس الأسبق حسنى مبارك دفعه لفتح ملف عشرات الآلاف من المعتقلين الإسلاميين الذين اكتظت بهم المعتقلات على مدى أكثر من عشرين عامًا، وفق شروط صفقة لم يكتف النظام خلالها بالمراجعات الفكرية التي قدمتها الجماعة، بل اشترط أيضًا عدم انخراط أعضاء الجماعة المفرج عنهم في أي تنظيمات أو تشكيل أي أحزاب سياسية، والسماح لهم فقط بالعمل الدعوى.

وعلى الرغم من عدم الإعلان عن هوية منفذي الهجوم الإجرامى أمس الاثنين، إلا أن طريقة التنفيذ وموعده الذي تم التخطيط له بعناية، يجعل من السهولة بمكان معرفة بصمات المنفذين لدى الأجهزة الأمنية، خاصة بعد هجمات سابقة على مراكز للشرطة والجيش في سيناء، حيث يعتبر هذا الحادث هو الأكبر والأكثر دموية الذي يتعرض له الأمن المصري منذ سنوات.

وتشير التقارير إلى أنه منذ عزل الرئيس محمد مرسي في الثالث من يوليو الماضي، فقدت القوات المسلحة والشرطة المصرية 49 من عناصرها هم 28 شرطيا و21 جنديا، تشير أصابع الاتهام في كل حوادثها إلى التنظيمات الجهادية ، التي أعلنت حربا صريحة ضد القوات المصرية "شرطة وجيشا"، بسبب ما تعتبره هذه التنظيمات خروجا على الشرعية، بالإضافة إلى الحملات الأمنية والعسكرية ، التي طالت عناصرها مؤخرا في مناطق سيناء.

وجاء بيانان للسلفية الجهادية في سيناء صدرا يوم الأحد قبل الماضى، فيما يشبه إعلان حرب على الجيش المصري، بعد أن وجها تحذيرا مباشرا من استمرار استهداف العناصر الجهادية في سيناء، حيث حمل أحدهما توقيع "السلفية الجهادية في سيناء" ونقلته المواقع الإلكترونية التابعة لتنظيم الجهاد، فيما حمل الثانى توقيع مجلس شورى المجاهدين التابع للجماعة الإسلامية، وهو ما يكرس فرضية الارتباط الوثيق بين تنظيم الإخوان وجماعات العنف الدينى في مصر.

اعتقالات قيادات تنظيم الإخوان

ومع تواتر الأنباء عن اعتقالات قيادات الصف الأول في تنظيم الإخوان وعلى رأسهم المرشد العام محمد بديع وما أعقبه من تعيين مرشد جديد ينتمى إلى المدرسة القطبية المتشددة في الجماعة وهو محمود عزت، بالإضافة إلى اعتقال قيادات التنظيمات الأكثر تشددا وعلى رأسهم محمد الظواهرى زعيم السلفية الجهادية في مصر وشقيق زعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهرى والقيادى في الجماعة الإسلامية مصطفى حمزه، تبدو سيناريوهات التصعيد الدموى أقرب إلى التنفيذ على الأرض، وذلك ضمن عمليات انتقامية من قوى الجيش والشرطة، وهو ما يتطلب قدرا أكبر من الحيطة والحذر ونمطا أرفع من الخطط التي يمكنها إحباط تلك السيناريوهات.

وعلى الرغم من اختلاف ملابسات التمدد السرطانى للجماعات الدينية المتشددة منذ نهاية السبعينيات مع ما يجرى حاليا، إلا أن حالة الانهيار الخاطف لمشروع تيارات الإسلام السياسي في مصر، وشيوع أجواء من الإحباط لدى المناصرين لهذا المشروع بعد الانتكاسة التي تعرض لها بنهاية حكم الإخوان لمصر، يمكن أن تكون عاملا موضوعيا لعودة العنف المنظم على غرار ما شهدته مصر منذ بداية ثمانينيات القرن الماضى والتي رسمت ملامحه بجلاء عملية اغتيال الرئيس الراحل أنور السادات.

ومن خلال تأصيل مراحل نشوء وارتقاء جماعات العنف الدينى في مصر، يمكننا رسم سيناريو ربما يكون أقرب إلى الدقة لما يمكن أن تشهده الساحة المصرية خلال الفترة القادمة من أعمال عنف منظمة تستند إلى مرجعية دينية متشددة، على الرغم من شيوع أجواء التفاؤل بقرب انزواء تلك الجماعات المتشددة، مع استمرار الضربات الأمنية الموجعة بالإضافة إلى تجفيف منابع التمويل لها، خاصة مع اعتقال قيادات الصف الأول لها.

فقد شهدت سبعينيات وثمانينيات القرن الماضى نمو سريعًا وواسعًا للجماعات الإسلامية الجهادية في مصر، في شكل ثلاثة تنظيمات رئيسية هي الجماعة الإسلامية وتنظيم الجهاد وجماعة التكفير والهجرة، حيث كانت الجماعة الإسلامية أكثرها نفوذًا وأوسعها انتشارًا، حتى قدر البعض عدد أعضائها نهاية التسعينيات بما يقرب من 40 ألف عضو، في حين يأتي في المرتبة الثانية تنظيم الجهاد الذي بلغ عدد أعضائه في نفس الفترة ما يقرب من 6 آلاف عضو، وأخيرًا تنظيم التكفير والهجرة الذي يعتبر الأصغر بالمقارنة مع الجماعتين السابقتين حيث بلغ عدد أعضائه ما يقرب من ألفي عضو.

وعزا باحثون ومراقبون وخبراء أمن هذا النمو السرطاني لجماعات العنف الدينى منذ نهاية السبعينات لجملة من العوامل، أهمها انزلاق جيل كامل من المصريين إلى حالة من اليأس والإحباط والغضب، مع انهيار المشروع القومى عقب هزيمة السادس من يونيو عام 1967، ناهيك عن فجاجة التحولات التي شهدتها البلاد وموجات الهجرة إلى دول الخليج، بالإضافة إلى القبضة الحديدية التي أدتى إلى قمع وتهميش المعارضة السياسية، وهو ما أنتج ظاهرة الأحزاب الكرتونية عديمة التأثير في الشارع والتي تستخدم كعامل مكمل للديكور الديمقراطى.

ومع تصاعد معدلات الفقر والقهر في الريف (خاصة الصعيد) وانتشار الثقافة الدينية المسطحة والمتشددة في آن واحد، خاصة بين سكان العشوائيات النازحين من الريف تحت وطأة الفقر بحثًا عن فرصة للحياة، وتراجع اليسار المصري الذي اختار الاندماج مع الدولة الناصرية سواء  كان عضويًا أو فكريًا، وتفكيك جماعة الإخوان المسلمين خلال الحقبة الناصرية، أصيبت الساحة السياسية المصرية بحالة من الفراغ المميت، سرعان ما تقدمت الجماعات الإسلامية الجهادية لاحتلاله، حيث كانت الأرض ممهددة سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا.

ومن خلال متابعة تقدم الجماعات المتشددة وكسب المزيد من الأنصار والمتعاطفين حتى خلال فترة قتالها ضد الدولة المصرية، يمكننا أن ندرك خطورة حالة الفشل الذي تعانيه النخبة المصرية وواجهاتها السياسية والإعلامية حاليا، وتراجع معدلات الثقة بينها وبين عموم الشعب المصرى، خاصة وأنها لم تقدم بديلا مقبولا وناجحا عقب انهيار نظام حسنى مبارك، فقد تقدمت هذه الجماعات في القرن الماضى بسبب إفلاس المشاريع السياسية الأخرى التي فشلت في تقديم حلول لمآسى الفقر والمرض والجهل.

وكان مشروع المقاومة الاجتماعية التي تستمد شرعيتها من تأويلات وتفسيرات متطرفة لأحكام الدين الإسلامي، تقوم في جوهرها على أنه لا مناص للخلاص من الظلم والقهر والفقر سوي بالرجوع إلى الدين وأحكامه التي يبتعد عنها الحكام، ومن ثم وجب قتالهم لإجبارهم على الرجوع إليها، وهو ما سهل لهذه الجماعات استغلال طاقة الغضب الاجتماعي .. والتوجه بها نحو الإرهاب والعنف المسلح الموجه ضد الدولة.

وتبدو حالة السيولة التي مرت بها الدولة خلال الفترة التي أعقبت ثورة 25 يناير، وما نتج عن ذلك من انفلات أمنى وتدهور اقتصادى وسيادة أنماط من الانهيار المجتمعى والأخلاقى، أرضية جيدة تتوافر لجماعات العنف الدينى للعودة مجددا وخوض حرب مثل التي خاضتها ضد الدولة خلال حقبتي الثمانينات والتسعينيات، والتي اتخذت شكل أعمال إرهابية استهدفت رجال الشرطة وبعض رموز الدولة والمثقفين العلمانيين.

وتتطلب تلك الحالة من الدولة المصرية الآن أن تبنى على أرضية الثقة التي أسسها الجيش بحماية الإرادة الشعبية يوم 30 يونيو الماضى، وما أعقب ذلك من خروج ملايين المصريين .. الذين لا ينتمى معظمهم إلى أحزاب أو جماعات سياسية لتفويض الجيش لمحاربة الإرهاب، باعتبار أن تلاحم الشعب مع الجيش والقوى الأمنية هو الخيار الوحيد للنجاة من موجة عنف أعمى قد تضرب مصر من جديد، خاصة مع ظهور جماعات السلفية الجهادية لتعلن عن نفسها من خلال عمليات القتل والتفجيرات التي طالت عدة مناطق خلال الفترة الأخيرة.

وفيما تبدو مختلف المناطق المصرية مرشحة كأهداف لجماعات العنف الدينى، إلا أن تركيز الأعمال الإرهابية في منطقة سيناء يطرح العديد من التساؤلات .. حول اختيار تلك المنطقة الاستراتيجية كساحة للعمليات الانتقامية، ومدى توافق موازين المعركة بين الجيش وقوى الأمن المصرية والمجموعات الجهادية، باعتبارها مجموعات مسلحة تجيد حرب العصابات وعمليات الكر والفر ولا تخوض حربا منظمة كالتي تخوضها الجيوش.

وتعتبر سيناء في نظر جماعات العنف الدينى المكان الأمثل لزرع خلايا تنظيمية مسلحة وذلك لكونها معزولة نسبيا وتتميز بخصائص طبيعية تنتج تضاريس وعرة بسبب انتشار الجبال والكهوف الملائمة للعمل المسلح وصعوبة السيطرة الأمنية عليها، بالإضافة إلى سهولة النفاذ منها إلى قطاع غزة الذي يضم الكثير من التنظيمات الجهادية التي ترعاها حركة حماس عبر الأنفاق، كما أن الطبيعة البدوية لسيناء تساعد على حماية تلك الخلايا وأعضائها، ناهيك عن الفقر الشديد وارتفاع معدلات البطالة اللذين يعتبران رصيدا ثمينا للعمل الإرهابى.

ومن خلال وجود علاقات فكرية وعقائدية بين تلك المجموعات وتنظيم القاعدة العالمى، يمكن رصد سبع مجموعات من التنظيمات السلفية الجهادية تحارب الجيش والشرطة في سيناء يبدو جليا ارتباطها بجماعة الإخوان، خاصة بعد قيامها بتصعيد عملياتها ضد الجيش والشرطة في سيناء بعد عزل الرئيس السابق مرسي، وهو ما ظهر في حديث القيادى بجماعة الإخوان محمد البلتاجى لقناة الجزيرة حيث قال " إن العنف في سيناء سوف يتوقف فورا حال عودة محمد مرسي إلى السلطة ".

وهذه التنظيمات هي الرايات السود وبقايا تنظيم الجهاد والتوحيد وتنظيم السلفية الجهادية ومجلس شورى المجاهدين "أكناف بيت المقدس" ومنظمة أنصار الجهاد وتنظيم أنصار بيت المقدس وجيش الجلجلة، وهذه التنظيمات التي تشير إليها أصابع الاتهام في عمليات اختطاف وقتل عناصر الجيش والشرطة، كما تعتبر مسئولة عن عمليات تفجير خط الغاز المصرى، وهى تتخذ من مناطق الجبال الوعرة والوديان والمغارات ملاذات آمنة لعناصرها التي تتنقل بين الأراضى المصرية وقطاع غزة.

وليس ثمة شك في أن تلك التنظيمات التي تمارس أعمالها الإجرامية لا يمكنها أن تتمدد إلا إذا وجدت البيئة الملائمة وتوافرت لها الملاذات الآمنة، وهو ما يتطلب معالجة الكثير من الظواهر الاجتماعية والاقتصادية التي توفر مناخا جيدا لاكتساب الأنصار والأعوان والجنود المنفذين، من خلال استغلال حالة الغضب والحقد على النظام التي تحرك تلك المجموعات البشرية المقهورة، كما أن وضع خطط لا تعتمد الحلول الأمنية فقط للتعامل مع الوضع في سيناء هو السبيل الأكثر تأثيرا في تقليص تمدد  التنظيمات. 
الجريدة الرسمية