بعد الخماسين، رواية تلامس أعماق النفس بين الغربة والتجدد

لست ناقدًا أدبيًا، بل متذوق للأدب، أبحث في القراءة عن متعة الاكتشاف والتفاعل مع النصوص الأدبية، عن ذلك الإحساس الذي يجعلني أذوب في صفحات الكتاب حتى أنسى الزمن. هناك أعمال أدبية تُقرأ على مهل، وأخرى تجرف القارئ معها كتيار قوي، وهذا بالضبط ما فعلته بي رواية "بعد الخماسين" للكاتبة منى شماخ، حيث شدتني بأسلوبها السلس وعمقها العاطفي حتى أنهيتها في حوالي نصف ساعة، مأخوذًا بتفاصيلها وحساسيتها.
ما دفعني لكتابة هذا المقال ليس فقط إعجابي بالرواية، بل أيضًا تأثري العميق بأسلوب الكاتبة، إذ لم تكن هذه المرة الأولى التي أجد نفسي مشدودًا لنصوصها؛ فقد أعادتني منى شماخ إلى سحر الأدب بعد أن أسرتني سابقًا بمجموعتها القصصية "قولي لا". أما هذه المرة، فقد ذهبت أبعد من ذلك، حيث وجدت في "بعد الخماسين" تجربة روائية تستحق التأمل والتحليل، لما تحمله من رؤى إنسانية عميقة حول الفقد، الغربة، وإعادة التكيف مع الحياة.
بين العاصفة والربيع
في الأدب، تُعتبر الرواية مرآة للتجربة الإنسانية، تلتقط تحولات الذات في مواجهة الحياة. ومن هذا المنطلق، تأتي رواية "بعد الخماسين" للكاتبة منى شماخ، التي تقدم سردًا متأملًا عن الفقد، الغربة، إعادة التكيف، والهويات المتعددة. العنوان نفسه يحمل بعدًا رمزيًا عميقًا، إذ يشير إلى مرحلة ما بعد العاصفة، وكأن الرواية تطرح تساؤلًا مركزيًا: ماذا بعد الفقد؟ كيف تستمر الحياة حينما يتغير كل شيء؟
البنية السردية: تيار الوعي والتنقل الزمني
تعتمد الرواية على السرد الذاتي بضمير المتكلم، حيث تنقل البطلة تأملاتها حول الأحداث التي تمر بها، مما يعزز القرب العاطفي بين القارئ والنص. تبرز تقنية تيار الوعي بوضوح، إذ يتنقل السرد بين الماضي والحاضر، بين لحظات الألم ومحاولات التأقلم، وبين الذكريات القديمة والتحديات الراهنة.
الانتقالات الزمنية في الرواية ليست خطية، بل تتسم بطابع دائري، حيث تعود البطلة مرارًا إلى الذكريات، ثم تحاول المضي قدمًا، لكنها تجد نفسها عالقة في دوامة من التساؤلات والحنين.
نساء في مواجهة المصير
تُقدّم الرواية مجموعة من الشخصيات النسائية، كل واحدة منهن تواجه تحولات كبرى:
البطلة (الراوية): تعيش ازدواجية الغربة، حيث كانت غريبة في بلد المهجر، لكنها أيضًا غريبة في وطنها بعد العودة. تمر برحلة من الحزن إلى محاولة إعادة بناء الذات.
هدى: امرأة تواجه خيانة زوجها، لكنها تختار ألا تكون ضحية، بل تتخذ قرارًا حاسمًا يعكس تحررًا نسويًا واضحًا.
سلوى: تعيش أزمة معاكسة، إذ تعاني من عودة الزوج بعد غياب طويل، ما يجعل العلاقة بينهما تحتاج إلى إعادة تعريف جديدة.
ماجدة: تمثل مخاوف التقاعد والفراغ بعد فقدان الدور الاجتماعي، ما يجعلها تبحث عن هويتها من جديد.
الرابط بين هذه الشخصيات أنهن جميعًا نساء في مواجهة المصير، يسعين للنجاة بعد الأزمات، ويمثلن تجارب متنوعة للمرأة العربية في ظل التحولات الاجتماعية.
بين الفقد وإعادة البناء
علاقاته بالحياة والآخرين. في "بعد الخماسين"، لا يكون الفقد نهاية، بل بداية جديدة تحمل معها تحديات وإمكانيات غير متوقعة. الرواية لا تقدم الفقد كحالة جامدة، بل كحركة مستمرة، حيث تتصارع الشخصيات بين الاستسلام له أو مقاومته عبر إعادة بناء ذواتها وعلاقاتها. هنا، يبرز سؤال محوري: هل يكفي الزمن وحده لالتئام الجروح، أم أن إعادة البناء تتطلب إرادة تتجاوز مجرد الانتظار؟
1- الغربة والهويات المتعددة
الرواية تطرح مفهومًا عميقًا للغربة، فهي ليست مجرد انتقال جغرافي، بل حالة نفسية مستمرة. حتى بعد عودة البطلة إلى وطنها، تظل تشعر بأنها لا تنتمي تمامًا، وكأنها عالقة بين عوالم مختلفة.
2- الخيانة الزوجية وتحولات العلاقات
الخيانة في الرواية ليست مجرد فعل جسدي، بل هي غياب للتواصل العاطفي. الشخصيات تواجه هذا الصراع بطرق مختلفة، مما يعكس رؤية نسوية حديثة للعلاقات العاطفية.
3- التغيرات الاجتماعية وصدام الأجيال
هناك صراع واضح بين الأجيال، خاصة في شخصية ماجدة التي تحاول فهم تغيرات زوجها وأبنائها بعد سنوات من الانشغال بالعمل. هذا التباين يعكس تحولات المجتمع الحديث، حيث لم تعد الأدوار الاجتماعية ثابتة كما كانت.
3- اللجوء والتشابه بين التجارب الإنسانية
القصة الجانبية حول العائلة السورية التي تستأجر الطابق العلوي تضيف بعدًا سياسيًا وإنسانيًا، حيث يتوازى شتات اللاجئين مع تجربة البطلة في الغربة. كلاهما يواجه سؤال الانتماء والمصير.
عذوبة مشحونة بالعاطفة
اللغة في "بعد الخماسين" تتميز بكونها بسيطة لكنها مشحونة بالعاطفة. السرد يعتمد على صور بلاغية جميلة تعكس المشاعر العميقة للشخصيات، مثل تشبيه الحياة بالعاصفة الخماسينية التي تعقبها لحظة استقرار.
الحوار في الرواية واقعي وسلس، لكنه يحمل دلالات نفسية عميقة. بعض المشاهد تتكرر بإيقاع وجداني، مما يعزز الشعور بأن الشخصيات عالقة في دوامة المشاعر والأحداث.
بين الألم والأمل والتجدد
"بعد الخماسين" ليست مجرد رواية عن الفقد أو الغربة، بل هي رحلة في أعماق النفس البشرية. الشخصيات ليست أبطالًا تقليديين، بل هي شخصيات تعاني، تخطئ، تحاول، وتبحث عن طريق جديد.
الرواية تطرح سؤالًا جوهريًا: هل يمكن للحياة أن تبدأ بعد الفقد؟ وهل يمكن للأمل أن ينمو بعد العاصفة؟ منى شماخ لا تقدم إجابة مباشرة، بل تترك شخصياتها تواجه المصير بطرق مختلفة، بين الاستسلام والمقاومة، وبين الألم والتجدد. البطلة، رغم كل ما مرت به، لا تزال تبحث عن مخرج من التيه، وهذا ما يجعل الرواية مفتوحة على احتمالات لا تنتهي. وربما تكمن الإجابة في العنوان نفسه، حيث أن الخماسين ليست النهاية، بل محطة على طريق طويل من التحولات والتجارب. ما يأتي بعدها هو الأهم، وهو ما يجعل هذه الرواية دعوة للتأمل في قدرتنا على النهوض من جديد، مهما كانت العواصف التي تعصف بنا.
ونقدم لكم من خلال موقع (فيتو)، تغطية ورصدًا مستمرًّا على مدار الـ 24 ساعة لـ أسعار الذهب، أسعار اللحوم ، أسعار الدولار ، أسعار اليورو ، أسعار العملات ، أخبار الرياضة ، أخبار مصر، أخبار اقتصاد ، أخبار المحافظات ، أخبار السياسة، أخبار الحوداث ، ويقوم فريقنا بمتابعة حصرية لجميع الدوريات العالمية مثل الدوري الإنجليزي ، الدوري الإيطالي ، الدوري المصري، دوري أبطال أوروبا ، دوري أبطال أفريقيا ، دوري أبطال آسيا ، والأحداث الهامة و السياسة الخارجية والداخلية بالإضافة للنقل الحصري لـ أخبار الفن والعديد من الأنشطة الثقافية والأدبية.
تابع موقع فيتو عبر قناة (يوتيوب) اضغط هــــــــــــنا
تابع موقع فيتو عبر قناة (واتساب) اضغط هــــــــــــنا
تابع موقع فيتو عبر تطبيق (نبض) اضغط هــــــــــنا
تابع موقع فيتو عبر تطبيق (جوجل نيوز) اضغط هــــــــنا