الليلة الأخيرة، مشهد الوداع في حياة أبي بكر الصديق
في هذه السلسلة، نتناول استعراضا لليالي الأخيرة في حياة بعض الصالحين، ممن يصدُق عليهم ما نصفه بـ "حُسن الخاتمة"، والفراق الطيب، والرحيل الجميل، بعد حياة حافلة بالإيمان بالله ورسوله، صلى الله عليه وآله وسلم، وبالحسنات، والالتزام بآداب الإسلام، وتعاليم الشريعة السمحة.
في هذه الحلقة، نستعرض مشاهد من يوم مفارقة سيدنا أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، للدنيا.. بعد فترة قصيرة من خلافته لآخر الأنبياء، صلى الله عليه وآله وسلم.. ورغم الحزن العميق الذي أحس به الصحابة، من أنصار ومهاجرين، لرحيل الخليفة الذي نجح في وأد فتنة الردة، وقمع المرتدين ورد كيدهم إلى نحورهم، فإن أبا بكر نفسه، عندما شعر بدنو الأجل، لم يكن على ظهر الأرض من هو أسعد منه، فقد اقترب لقائه بحبيبه، صلى الله عليه وآله وسلم، والذي لم يكد يبتعد عنه لحظة خلال حياته، والذي فارقه قبل نحو خمسة عشر شهرا، إلى جوار البارئ، سبحانه وتعالى.
وإلى عرض كواليس رحيل الصحابي الجليل، والخليفة الأول، ورفيق الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، في الكفاح من أجل نشر الدعوة، وفي شعب أبي طالب، وفي الهجرة.
خِطبة أبي بكر قبل وفاته
لمّا أحسّ أبو بكرٍ باقتراب أجله جمع النّاس وخطب فيهم، فذكر حاله واقتراب أجلِه، ثمَّ تنازل عن خلافة المسلمين وأمرهم بأن يختاروا خليفةً لهم منهم، فقال: "وَقَدْ أَطْلَقَ اللَّهُ أَيْمَانَكُمْ مِنْ بَيْعَتِي، وَحَلَّ عَنْكُمْ عُقْدَتِي، وَرَدَّ عَلَيْكُمْ أَمْرَكُمْ، فَأَمِّرُوا عَلَيْكُمْ مَنْ أَحْبَبْتُمْ".
ثمَّ أتوه فطلبوا منه أن يختار لهم الأصلح لها منهم فأخذ منهم العهد إن هو اختار أن يرضوا فعاهدوه، ثم قال لهم: "فَأَمْهِلُونِي حَتَّى أَنْظُرَ لِلَّهِ وَلِدِينِهِ وَلِعِبَادِهِ"،
ثمّ طلبَ عثمان فأتاه فأخذ منه المشورة، فأشار عليه بعمر بن الخطّاب، فقال: اكتٌب، فكتب عثمان وصيَّته لعمرَ بن الخطّاب.
وجاءه ناسٌ فقالوا: "مَاذَا تَقُولُ لِرَبِّكَ وَقَدِ اسْتَخْلَفْتَ عَلَيْنَا عُمَرَ"؟!، فقال: "أَقُولُ اسْتَخْلَفْتُ عَلَيْهِمْ خَيْرَ أَهْلِكَ".
سبب الوفاة
يروي المؤرخون أن أبا بكرٍ، رضي الله عنه، اغتسل في يوم شديدِ البرد، فأصيب على إثره بالحٌمَّى (إنفلونزا حادة)، وبقي مريضًا لمدة خمسة عشر يومًا، وكانت الحمَّى شديدة عليه لدرجة أنّه لم يستطع الخروج إلى الصَّلاة، وكان يأمر عمر بن الخطّاب، رضي الله عنه، أن يصلي بالناس.
ويرى عباس محمود العقاد فى كتابه "عبقرية الصديق"، أنه "مات بالسُّم فى أكلة أكلها قبل عام من وفاته"، وليس لهذا القول مرجع يرجحه.
وقيل أيضا: إنه مات بالحمى؛ لأنه استحم فى يوم بارد، وقد مات فى شهر قائظ، كما يظهر من مضاهاة الشهور العربية على الشهور الشمسية، فليس لهذا القول سند صحيح.
وأغلب الظن أنها حمى المستنقعات "الملاريا" التى أصيب بها بعد الهجرة إلى المدينة، ثم عاودته فى أوانها مرة أخرى وهو شيخ ضعيف، فجددت الإصابة الثانية مضاعفات الإصابة الأولى.
وقد أمر عائشة وقت احتضاره أن ترُدَّ ما عنده لبيت مال المسلمين، فقال: "وَإِنَّهُ لَمْ يَبْقَ عِنْدَنَا مِنْ فَيْءِ الْمُسْلِمِينَ، إِلَّا هَذَا الْعَبْدُ الْحَبَشِيُّ، وَهَذَا الْبَعِيرُ النَّاضِحُ، وَجَرْدُ هَذِهِ الْقَطِيفَةِ، فَإِذَا مُتُّ فَابْعَثِي بِهِنَّ إِلَى عُمَرَ".
فلمّا علم عمر بذلك بكى وقال: "رَحِمَ اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ، لَقَدْ أَتْعَبَ مَنْ بَعْدَهُ"، وكانت المدّة التي ولي فيها أمر المسلمين سنتين وثلاثة أشهر وعشرة ليال، وتوفي وعمره ثلاث وستون سنة بعد مغرب يوم الإثنين الثّاني والعشرين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة للهجرة.
وعن عائشة، رضي الله عنها، قالت: "لما اشتد مرض أبى بكرٍ بكيتُ وأغمى عليه، فقلت: من لا يزال دمعه مقنعًا فإنه من دفعه مدفون"، فأفاق فقال: ليس كما قلت يا بنية ولكن: "وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ۖ ذَٰلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ".
ثمَّ سأل عن يوم انتقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأخبرته عائشة أنّه كان يوم الإثنين، وسألها عن يومه هذا، فأخبرته أنَّه الإثنين، فرغبَ لو يٌقبض فيه.
وسألها عن كفن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأجابته أنّ سيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم، كٌفّن في ثلاثة أثواب يمنيّة بيض جديدة ليس فيها قميص ولا عمامة، فأمر، رضي الله عنه، بغسل ثوبه وأن يٌكفّن فيه مع ثوبين جديدين.
حينما علم النَّاس بمرض أبي بكر الشديد الذي أصابه آخر حياته سألوه أن يحضروا له طبيبًا، فقَالَ: "قَدْ أَتَانِي وَقَالَ لِي: أَنَا فَاعِلٌ مَا أُرِيدُ"، فعلموا أنَّه مودِّعهم.
وقد أوصى، رضي الله عنه، وقت وفاته أن تغسِّله زوجه أسماء بنت عميس وابنه عبد الرحمن.
ثمَّ دُفن، وأمّ النّاس في الصّلاة عليه عمر بن الخطاب، ثمّ ذهبوا به حيث مقام رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، فدخل عبد الرحمن ابنه مع عمر بن الخطّاب وعثمان بن عفّان وطلحة بن عبيد الله، وجعلوا رأسه عند كتف سيدنا محمد، وألصقوا لحده بلحده، وجعلوه مثله مسطحًا، وكان آخر ما نطقه أبو بكر قوله تعالى: "تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ".