اللعب فى الدعم.. حكايات رؤساء مصر مع دعم الغلابة.. ناصر انحاز للبسطاء.. انتفاضة الخبز بالونة اختبار لانفتاح السادات.. ومبارك تبنى سياسة النفس الطويل
على امتداد تاريخ مصر القديم والحديث لعب ملف الدعم دورا فى الاستقرار السياسى وفى حدوث الأزمات.. والثورات، بداية من دعم رغيف الخبر وليس انتهاء بالسلع الغذائية المختلفة وصولا إلى دعم الخدمات مثل الكهرباء والوقود والبنزين والسولار والبوتاجاز وغيرهم.
ولم يكن الرؤساء والحكومات المتعاقبة فى تاريخ بلادنا الحديث تقترب من ملف الدعم والأسعار إلا فى حدود ضيقة جدا وبحذر شديد وإلا اندلع غضب المصريين كما حدث فى انتفاضة الخبز فى عهد السادات، ورغم أن أحد شعارات ثورة 25 يناير 2011 كان «عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية» إلا أن حكومة الدكتور مصطفى مدبولى فعلت ما لم تفعله حكومة سابقة فقد تضاعفت أسعار السلع والخدمات بصورة جنونية وغير مسبوقة وبعدة مرات، كما يتم رفع الدعم تدريجيا عن كل السلع والخدمات والمواد البترولية والبوتجاز والغاز والكهرباء، كما أعلنت الحكومة رغبتها فى تحويل الدعم العينى مثل السلع التموينية وخلافها إلى دعم نقدي. ويرى خبراء أن سعى الحكومة لهذا الأمر لا علاقة له بالسبب المعلن وهو وصول الدعم لمستحقيه ومحاولة ترشيد فاتورة الدعم فى الموازنة ولكن الحكومة تفعل ذلك تنفيذا الشروط صندوق النقد الدولي..
«فيتو» فى هذا الملف تفتح ملف الدعم عبر العصور المختلفة والممارسات الحالية بشأنه من خلال استطلاع آراء وزراء سابقين وخبراء اقتصاد وسياسيين فإلى التفاصيل:
تملك مصر تاريخا كبيرا فى دعم الفقراء، والأمر لا يتوقف فقط على حكومات ما بعد ثورة 23 يوليو عام 1952، لكنه يعود إلى الفترة الملكية، التى عرفت فيها مصر هذا المصطلح، بسبب لجوء الحكومة آنذاك إلى تخفيف آثار الحرب العالمية الأولى على المصريين ولاسيما البسطاء منهم، عبر خفض أسعار السلع الغذائية وتوفيرها فى منافذ حكومية بأسعار تناسب قدرات الشرائح الدنيا والمتوسطة.
ونفس الأمر تكرر خلال الحرب العالمية الثانية، بعد أن قامت الحكومة المصرية بتطبيق برنامج دعم لكافة المواطنين، لتخفيف حدة الآثار السلبية للحرب على مستوى المعيشة، وجرى توفير أهم السلع الأساسية مثل السكر، الكيروسين، زيت الطعام، والشاي، ويبدو لافتا أن مصر عرفت لأول مرة فى تلك الفترة البطاقة التموينية لتوزيع المواد على المستهلكين شهريا وبمقدار محدد للشخص الواحد، وهو النظام الذى توسعت فيه حكومات يوليو لاحقا.
ناصر.. الغلابة أسياد البلد
أدت سياسات الإصلاح والعدالة الاجتماعية التى انتهجها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، إلى مدّ الدعم إلى أغلب مجالات الحياة مما ساهم بشكل ملحوظ فى تحسين مستوى معيشة السواد الأعظم من المصريين ولاسيما الطبقة المتوسطة والفقراء.
كانت أكثر الطبقات المستفيدة من الرؤية الناصرية الطبقة المتوسطة، التى ازدهرت بشكل كبير خلال عهد عبد الناصر وزاد استهلاك هذه الطبقة بطريقة لافتة حتى حدود عام 1965، قبل أن يدخل النظام الناصرى فى مشكلات صعبة بسبب الحروب وارتفاع فاتورة الدعم والاستهلاك المتزايد وزيادة تكاليف المعيشة التى ظلت مستقرة بشكل لافت بين أعوام 1950 ـ 1964 بخلاف مشكلة اعتماد ناصر على الديكتاتورية التى منعت المحاسبة كما أبعدت الطبقات الشعبية التى هى عماد المنهج الاشتراكى عن المشاركة فى الحكم والرقابة على منهج الحكم وقراراته.
وفقا لكتاب الاقتصاد السياسى للناصرية، الذى أعده الدكتور محمود عبد الفضيل، أستاذ الاقتصاد فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، والذى كان شاهدا على تلك الفترة، بعد عام 1965 بدأت امتيازات النظام الناصرى فى التآكل، ولجأت الدولة إلى زيادة ساعات العمل أسبوعيا واستمرت فى التصاعد حتى وصلت من 44 ساعة عام 1964 إلى 55 ساعة عام 1970 ولكن السياسة الجديدة لم تنهى المشكلة أو تصل إلى حل لها.
وبسبب مشاكل الاقتصاد تراجع مستوى الأجور كنسبة مئوية من الدخل القومى بعد أن وصل إلى أفضل معدلاته بين عامى 1963 ـ 1964 لكنه انخفض بشكل مطرد بعد ذلك لعدة أسباب على رأسها تراجع معدل الاستثمار الذى وصل إلى أعلى مستوى له عند 22.3 % بين عامى 1963 و1964، وانخفض بصورة ملحوظة إلى 12% بحلول عام 1970 الأمر الذى جعل منهج العدالة الاجتماعية ورؤية التوزيع الأكثر مساواة للدخل القومى مشروعا قصير الأجل للناصرية حسب “عبد الفضيل”.
والمطلع على كتابات الناصرية، يعرف أنها تبرر هذا التراجع بآثار حرب عام 1967، لكن صاحب كتاب الاقتصاد السياسى للناصرية يؤكد أن هذه المبررات لم تكن دقيقة، إذ كانت المؤشرات على الأزمة ظاهرة قبل الحرب لكنها أدت إلى تفاقمها دون شك، وأهم أسبابها من وجهة نظره ارتفاع الاستهلاك وتوحش دور الموالين للحكم من الموظفين ومديرى المشروعات وأنصار الفكرة، على حساب أصحاب المصالح الذين يتحدث النظام باسمهم من العمال والفلاحين.
ولم تفلح جهود الحكومة الناصرية رغم صياغة برنامج اقتصادى جديد فى 30 مارس 1968فى التغلب على المشكلة، بل استفادت من البرنامج الجديد نفس الدوائر المحيطة بالحكم، الذين ارتكزت مواقفهم دائما على منع أى انتقال إلى الاشتراكية كحل للأزمة، إذ كما هو معروف تفرض الرؤية الاشتراكية ممارسة السلطة بواسطة العمال والفلاحين الذين تتحدث الفكرة باسمهم لتطوير قوى الإنتاج وتحسين توزيع الدخل ومستويات المعيشة وفق ما يعرف باسم السلطة الشعبية، التى تقف فى مواجهة تكون أى طبقة حاكمة معزولة بمصالحها وقراراتها عن الشعب.
ونتيجة لهذا التخبط خففت الحكومة الناصرية القيود المفروضة على استيراد السلع الكمالية الشخصية، وألغت احتكار القطاع العام لبعض السلع، كما أدخلت إصلاحات إدارية على مؤسسات القطاع العام وحثت على تطبيق معايير السوق الحرة على الإدارة باسم زيادة الكفاءة، وفى أغسطس 1968 حدثت عمليات إلغاء تأميم طفيفة، لذا كان طبيعيا أن يتحول هذا النظام تدريجيا فى عهد السادات إلى الرأسمالية وليس المزيد من الصبغة الاشتراكية.
السادات.. الدولة ليست أما ولا أبا
تولى الرئيس محمد أنور السادات حكم مصر، وهو يعرف أن الحلول السريعة لأزمات الاقتصاد مشكلة كبيرة، وقد لا يوجد لها حل بالأساس، رغم الوعود فى بداية حكمه بالسير على منهاج الناصرية، فالطبقة المتوسطة والدنيا تأسس كل منهما على مدى أكثر من 15 عاما على يد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، ولن تقبل هذا الطبقات بأقل مما كان يقدم لها.
من أجل ذلك، بدأ السادات حكمه بالتوسع فى الدعم، وامتد ليشمل 18 صنفا، منها الفول، والعدس، والأسماك، والدجاج واللحوم المجمدة، إضافة إلى دعم الكهرباء، وخدمات النقل الداخلي، والبنزين، واستهداف كافة المواطنين وليس محدودى الدخل أو الفقراء فقط.
وبلغت قيمة الدعم فى عام 1970 نحو 20 مليون جنيه، كان الجزء الأكبر منه مخصصا للدعم الغذائي، والذى استحوذ على 75% من قيمته.
سلك السادات بعد حرب أكتوبر طريق المعسكر الغربي، ولجأ إلى تغيير سياسته الاقتصادية والاجتماعية بما عرف بسياسة الانفتاح، ونتج عن ذلك قرار حكومته برفع الأسعار فى يناير 1977 على عدد من السلع مثل العيش الفينو، الدقيق، السكر، والأرز والشاى كجزء من الاتفاقات مع صندوق النقد الدولى فى 1976 لتخفيض الدعم، وذلك لتنفيذ حزمة من الإصلاحات الاقتصادية.
لكن جاء رد الجماهير فوريا بانتفاضة كبيرة شملت محافظات عديدة فى مصر معبرة عن غضب شعبى عارم تجاه تخلى السادات عن المنهج الناصرى أو حتى وعوده الشخصية بتحقيق الرخاء للمواطنين من خلال تطبيق سياسة الانفتاح.
ولم تتوقف الانتفاضة حتى تراجعت الحكومة عن قرارها وأعادت الأسعار إلى ما كانت عليه فى السابق، بل إن السادات قام بعدها بتوسيع نظام الدعم وأصبح يوزع الدقيق فى المناطق الحضرية والريفية على حد سواء.
وحسب شهادة المفكر المصرى الراحل جلال أمين، ترك عصر الانفتاح فوارق ملحوظة فى حياة المصريين ولاسيما الأجيال التى عاشت لحظة التحول، وعرفت معنى الاتساع المستمر فى الفجوة بين مستويات الدخل.
يؤكد “أمين” أن هذه الأجيال عرفت من خلال سياسات الانفتاح ربما لأول مرة معنى التضخم، والفارق الكبير بين الطبقات وخاصة الأعلى والأدنى، وانعكاسات ذلك على ظاهرة هجرة المصريين خارج البلاد وما عرف لاحقا بالتزاوج بين المال والسلطة الذى زاد من معدلات الفساد بدرجة غير مسبوقة وكذلك الفوارق الصارخة بين حياة الريف والحضر.
مبارك.. الغزل العفيف للدعم
لم يكن أمام الرئيس الأسبق محمد حسنى مبارك أى مسلك للهروب من طريق الدعم، خاصة أنه كان شاهد عيان على التجربة الساداتية، وكان الرجل الثانى فى صناعة القرار السياسى بالبلاد بعد منتصف السبعينات وحتى توليه منصب الرجل الأول.
مع بداية تولى مبارك حكم البلاد فى بداية الثمانينيات من القرن الماضى رفع من قيمة الدعم الموجه إلى السلع التموينية ووصل إلى 1،6 مليار جنيه سنويا، ومع ذلك اتجه مباشرة عام 1982 إلى تجهيز خطة لمواجهة عجز الموازنة الناتج عن التوسع فى الدعم وأسماها خطة إصلاح نظام دعم السلع الغذائية.
كان مبارك شاهد عيان على انتفاضة 1977 وعرف جيدا ماذا يعنى الخبز للمصريين، لذا لم يلجأ إلى حلول ثورية أو سريعة فى مواجهة المشكلات الاقتصادية الناتجة عن الدعم، وبدلا من ذلك لجأ إلى استراتيجية طويلة الأجل حتى لا يشعر المواطن بالتدخل العنيف من الدولة لتخفيض امتيازاته.
انتظر مبارك 10 سنوات، وتحديدا عام 1992 لإزالة دعم السمك والدجاج واللحوم المجمدة والشاي، والأرز، وبعد نحو 5 سنوات أخرى لم يتبق مدعوما من السلع إلا العيش البلدي، والدقيق، والسكر، وزيت الطعام، وكان ذلك يحدث فى مسار مواز لتقليص الدعم جزئيًا بتخفيض عدد الأشخاص الذين يملكون بطاقات التموين والمستحقين للدعم الغذائى لينخفض عدد المستفيدين من 99% فى بداية الثمانينات إلى 70% عام 1998.
كما لجأت حكومات مبارك المتتالية إلى الحفاظ على معيشة الفقراء من خلال تصنيفهم عبر بطاقات التموين الخضراء وتستحق دعما كاملا ويستهدف محدودى الدخل، أما البطاقات الحمراء فكانت تخصص لمن يستحق دعما جزئيا من المواطنين أصحاب الدخل الأعلى مثل المستثمرين أصحاب المحال أو ملاك الأراضى بأكثر من 10 أفدنة.
وعلى مستوى رغيف العيش، لم تدخر الدولة فى عهد مبارك وسعا فى اللعب بتوازن شديد، إذ أبقت على سعر رغيف العيش كما هو منذ عام 89 بـ 5 قروش فقط ولم تقترب من الخط الأحمر للفقراء، ولجات للتغلب على ارتفاع أسعار القمح بتخفيض وزن وجودة الرغيف من 150 إلى 130 جراما فقط، وفى الوقت نفسه خصصت جودة أعلى من العيش للأسر ذات الدخل المرتفع، وبعد أعوام قليلة رفعت الدعم تماما عن هذا النوع من الأرغفة، لكنها أبقت على عيش الفقراء بنفس مواصفات الدعم حتى لا يتأثر المواطن البسيط ودون استفزاز المواطن القادر فى الوقت نفسه.