رئيس التحرير
عصام كامل

مصر بتاعتى.. مش هتسقط.. يا ابنى!!


إنها حالات إنسانية غريبة، ولكنها موجودة، ويجب أن نحمد الله على وجودها، لأنها تبعث فينا مشاعر بعشق شديد لهذا الوطن!!، هى نماذج غريبة فى سلوكها المُحب لمصر، رغم أن المواقف المُعبرة عنها ربما تكون كوميدية فى الوهلة الأولى، ولكن حينما تُراقب تلك المواقف بشكل أكثر قُرباً وعُمقاً، ربما تُبكى مثلما حدث لى فى الموقف التالى، من هول المشاعر الفياضة، التى تروى قلوبها، بالوله فى محراب الوطن!!...


فمنذ فترة قصيرة تعرضت لمثل تلك المواقف التى يُمكنها أن تهز كيانك كله وتؤثر فى وجدانك، بل وتُغيرك.

كنت قريباً من أحد مساجد مصر العريقة، فقلت لنفسى وقد حان وقت صلاة المغرب، أن أدخل لأُصلى فيه، خلعت نعلى، ودخلت أتأمل هذا الإعجاز المعمارى الذى صممه أجدادنا، فالجمال يُحيط بك من كل حدب وصوب، يلقى عليك السلام والدرس، بأن هذا الوطن حمل يوماً أُناساً عاشوا فى تلامس مع الإتقان، ليبدعوا فناً مُنبثقاً عن حالات حب عاشوها مع مصر، ستحيا حتى بعد أن نفنى (أطال الله فى عمر الجميع)!!.

دخلت لأُصلى ركعتين قبل أن يؤذن للصلاة، فإذا بى أُشاهد مشهداً غاية فى الغرابة، رجلُ عجوز، تبدو عليه البساطة، مُحتضنا عاموداً فى المسجد، وكأنه يحتضن أُماً أو حبيبة، راكناً رأسه عليه، ومُتمسحاً به، وكان أول رد فعل لى، أن ضحكت فى سرى، من المشهد، ثم أُسقط فى يدى، وشعُرت أننى أخطأت إذ ضحكت، وظننت أن الرجل ربما يكون مريضاً وهو يتأوه، ولا يستطيع أن يجد علاجاً، صممت لحظتها، أن أسأله لأعرف ما به.

ذهبت إليه، وجلست إلى جانبه ودار بيننا هذا الحوار تقريباً:

السلام عليكم،.. أنا آسف لو بزعج حضرتك، بس هل ممكن أساعد حضرتك؟..
سبنى فى حالى يا ابنى، .. أنا اللى فيا مكفينى.. ودى أحسن حاجة بعملها فى يومى!!
أنا يا فندم، مش قصدى أضايقك.. بس والله باعرض المُساعدة!!
وأنا فيا إيه علشان تساعدنى؟!.. الحمد لله على نعم ربنا كلها، بس يحفظلى حبيبتى!!
ربنا يحفظها لك.. مش عايز أسألك هى مين،.. بس افتكرت حضرتك بتتألم ولا حاجة، وحضرتك حاضن العامود ده كده!!
 يا ابنى أنا مقطوع لا ليا عيل ولا تيل... ما ليش غير ربنا فوق.. ومصر تحت.. والعامود ده يا ابنى، هو مصر بالنسبة لى اللى مغروسة فى الأرض وبتبص للسما بفخر وعزة وقوة.. بتاريخها كله.. العامود ده هو حبيبتى.. العامود ده هو حياتى.. لو ضاع أنا أموت، .. دى بلدى.. وأنا بطمن لما أحضن العامود ده!!
 ثم رفع يديه إلى أعلى وصرخ بعزم ما فيه: يا رب احفظها.. يا رب!!

قال كلماته بشكل جعلنى أشعر بمصر تتحرك بداخلى.. فى كل جنباتى.. وصمت.. ونظرت فى عينى الرجل وهو ينظر إلى للحظات... ولم أدر إلا ويديه تمسح دموعى، فلم أكن لأتصور هذا الكم من العشق لمصر يتفجر من فعل غريب، كهذا!!

نزلت على يديه الطاهرة مُقبلاً إياها،.. فسحبها بلُطف.. وربط على كتفى، وقال لى بنظرة مليئة بالتصميم وكأنه استعاد قوة شبابه الماضى كله:

"مصر بتاعتى.. مش هتسقط يا ابنى.. مصر باقية والمسلمون والمسيحيون فيها إخوات.. واللى مربيين ذقون عيرة وبيتاجروا بدينا، هيغيروا وهيستخبوا!! مصر أكبر من أن أى حد يمسها، لأن ربنا حافظها.. ولا أى كلب يقدر ياخدها مننا ما دام المولى حارسها بأهلها اللى بيحبوها وحاططها بين يديه!!

لقد حول هذا المصرى العجوز والبسيط (أطال الله فى عمره وأنعم عليه بالصحة والعافية)، هذا العامود لرمز ومعنى أتى من القدم مُعبراً بمجاز عن مصر، منطلقاً من باطن تربتها وليس مبنياً عليها فقط، مخترقاً وسط المسجد الذى يقوم عليه ضمن عُمدٍ أُخرى، وناظراً بشموخ إلى عنان السماء.. إلى الله، خالقه وخالقنا، وبرعايته باقٍ فى موضعه، كما مصر بمدنيتها وشموخها إلى ما شاء الله!!

إنها قصة ضمن قصص كثيرة بالتأكيد، نسمعها أو نراها فى هذه الأيام، رغم غرابتها، ولكنها تزيد ثقتنا ثقة، بأننا لسنا وحدنا من يؤمن بيقين بأن مصر ستنتفض وتُزيل عن كاهلها هذا التراب الإخوانى الأجنبى البغيض كونه يُتاجر بالدين والوطن، وستقاوم بكثيرين فيها، وستظل شامخة بمدنيتها أبد الدهر، بأمثال هذا الرجل وبأمثال أى مؤمن بمصر وما ترسخ فيها من معانٍ وقيم بناءة ولو اختلفت طُرق التعبير.

إنها بلادى الغالية، التى لا تركع أبداً، ولو قال بذلك الأغبياء ممن لا يعرفونها أو يفهمون معدن شعبها الأصيل!!
والله أكبر والعزة لبلادى
وتبقى مصر.. أولاً دولة مدنية

الجريدة الرسمية