رئيس التحرير
عصام كامل

حكايات منسية في مذبحة بحر البقر.. ممدوح استشهد على «تختة» ودفن بجوار والده.. المدرسة تحولت لـ«كوم تراب».. وقصة طبيب أنقذته مشاجرة بين والدته ووالده من الموت

حكايات منسية في مذبحة
حكايات منسية في مذبحة مدرسة بحر البقر، فيتو

مدرسة بحر البقر، كانت عقارب الساعة تدق السادسة في يوم 8 أبريل عام 1970، استيقظ ممدوح حسني صادق، الطالب بمدرسة بحر البقر في قرية الصالحية بمركز الحسينية، ارتدى ملابسه، وتوجه إلي المدرسة، فممدوح في الفترة الصباحية، بعد ساعات قليلة من دخول ممدوح للمدرسة قصف الاحتلال الإسرائيلي الغاشم مدرسته، فاستشهد على "دكته".

 

حكايات مذبحة بحر البقر

مذبحة مدرسة بحر البقر لا تزال تحمل في جعبتها الكثير من الحكايات المؤثرة والمنسية، حكايات تدمي القلوب، ففي ٨ أبريل ١٩٧٠، كانت قرية الصالحية بمركز الحسينية محافظة الشرقية على موعد مع جريمة ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي، أنها مذبحة بحر البقر، التي لن ولم ينساها المصريون برغم مرور 54 عامًا عليها.

 

أحد الأهالي الثكلي في مدرسة بحر البقر، فيتو

ارتكب العدو الإسرائيلي مذبحة بحر البقر فى حق أطفال محافظة الشرقية عام 1970، حيث قامت طائرات "الفانتوم" الأمريكية؛ فى الساعة التاسعة وعشرين دقيقة صباح يوم الأربعاء الموافق 8 أبريل 1970، بإطلاق خمس قنابل متتالية وصاروخين على مدرسة بحر البقر الابتدائية، التابعة لمركز الحسينية بمحافظة الشرقية، لتتناثر أشلاء 30 تلميذ، ما بين 6 إلى 12 عامًا، فى كل مكان، وتكسوا دمائهم "الكراريس" والكتب، يستشهد تلاميذ الابتدائي بلا ذنب، ويصاب 50 آخرين ليكملوا حياتهم بأجساد تحمل من تلك الذكرى ما لا يمكن نسيانه.

 

الدرس انتهى لموا الكراريس

"الدرس انتهي لموا الكراريس"، هكذا كتب عنها شاعر العامية صلاح جاهين قصيدته المشهورة، لكن هذه المرة لم يتمكن ممدوح حسني صادق من أن يلملم "كرساته"، استشهد على "دكته" في مدرسة بحر البقر للابتدائية، التي كانت عبارة عن دور واحد، تضم 3 فصول يدرس فيها 130 طفلًا، تتراوح أعمارهم من 6 أعوام إلى 12 عامًا.


ظهر اسم الطفل الشهيد ممدوح حسني صادق في قائمة تضم 30 طفلًا، كًتب فيها "شهداء مدرسة بحر البقر اللابتدائية"، حكاية ممدوح لم تكن عادية، فالطفل الصغير كان له أربعة أشقاء غيره، توفي والده عام 1966، أي قبل مذبحة بحر البقر بأربعة سنوات، الأسرة فقيرة، وبعد وفاة الأب، آثرت أم الشهيد ممدوح، الحاجة نبيلة علي محمد حسن، أن يستمر أطفالها في التعليم.

 

حكاية الطفل الشهيد ممدوح حسنى

كان ممدوح يعرف ما تعاني منه أسرته من الفقر، فقرر ألا يترك مدرسته ويكمل تعليمه، وفي صباح يوم 8 أبريل 1970، توجه ممدوح لمدرسته بحر البقر للابتدائية، التي كانت تبعد عن منزله 100 متر فقط، بدأت الحصص (عربي وحساب وعلوم)، وفي الساعة 9 و20 دقيقة تمامًا، سمع أطفال المدرسة أصوات طائرات الفانتوم الإسرائيلية تحلق في السماء، أصوات الطائرات كانت عالية تصم الأذان، لكن الأطفال في المدرسة آثروا البقاء.

استشهاد تلاميذ بحر البقر، فيتو


كان الرعب يملء صدور الأطفال والعاملين في مدرسة بحر البقر، وبعد ثواني قليلة من تحليق الفانتوم قُصفت المدرسة، كان ممدوح يجلس على "تختة"، لا يعرف ماذا سيحدث، لم يكن درسة قد انتهى بعد، كان الصراخ وأصوات الطائرات يصم الأذان وترتجف معه قلوب الأطفال، بعد ثواني قليلة خمد صوت ممدوح، وصعدت روح الطفل الصغير لبارئها، بعد أن خضبت دماءه الذكية كراسات الدرس، انتهي الدرس باستشهاد ممدوح، وكتب اسمه على لافتة من الرخام، لا تزال باقية حتى الآن.

 

الحاجة نبيلة تحكي قصة طفلها الشهيد

والدة ممدوح الحاجة نبيلة تحكي جانب آخر من الحكاية، ففي يوم الأربعاء 8 أبريل 1970، كانت الأم تقوم بأعمالها اليومية، تخبز لأطفالها الخمسة بضع أرغفة من الخبز، عندما سمعت صوت دوي عالٍ في الساعة التاسعة صباحًا، الدوي كان عالٍ جدًّا، وهز معه المنزل، الذي تساقطت بعذ أجراء منه، وتطايرت الأبواب والشبابيك.

مانشيت الأهرام في يوم مذبحة بحر البقر، فيتو


عاد بعض أطفالها من المدرسة جريًا، ليخبروها النبأ الفاجع، العدو الإسرائيلي فجر مدرسة بحر البقر، وقتل العديد من الأطفال الأبرياء، هنا قلب الحاجة نبيلة كان يملؤه الخوف، نظرت في أعين الأطفال فلم تجد ممدوح، سقطت على أرجلها، وحاولت القيام للبحث عن طفلها بن الأطفال الذين كانوا كانوا يخرجون جريًا من المدرسة.

ضرب مدرسة بحر البقر، فيتو

بعد دقائق قليلة، مرت على الحاجة نبيلة كاأها سنوات، شاهدت رجلين يحملات طفلها ممدوح، وأخبروها بالخبر الصادم، طفلها ممدوح استشهد على "دكته"، أثناء تلقيه الدرس، كانت طائرات العدو لا تزال تحلق فوق رؤوس الأهالي، فنصوحها بمغادرة القرية بسرعة لدفن نجلها، وبالفعل قامت الأم المكلومة بدفن ابنها الشهيد إلى جوار والده، حكاية الطفل ممدوح يعتبرها البعض من الحكايات المنسية، لكنها لا تزال تدمي القلوب برغم مرور 54 على مذبحة بحر البقر.    

 

أسماء شهداء مذبحة بحر البقر

حكايات مذبحة بحر البقر لا تنتهي، فقد خلفت آلامًا شديدة لأهالي قرية الصالحية بمركز الحسينية في الشرقية، وراء أسماء التلاميذ الشهداء بمدرسة بحر البقر حكايات مؤلمة، حيث ضمت قائمة الشهداء 30 اسم هم: (حسن  السيد محمد الشرقاوى، ومحسن سالم عبد الجليل محمد، وبركات سلامة حماد، وإيمان الشبراوى طاهر، وفاروق إبراهيم الدسوقى هلال، ومحمود محمد عطية عبد الله، وجبر عبد المجيد فايد نايل، وعوض محمد متولي الجوهرى، ومحمد أحمد محرم، ونجاة محمد حسن خليل، وصلاح محمد إمام قاسم، وأحمد عبد العال السيد، ومحمد حسن محمد إمام، وزينب السيد إبراهيم عوض، ومحمد السيد إبراهيم عوض، ومحمد صبري محمد الباهي، وعادل جودة رياض كراوية، وممدوح حسنى الصادق محمد".

المصابين في مدرسة بحر البقر، فيتو


كانت أصدق الكلمات التي خرجت وعبرت عن هؤلاء الأطفال الكلمات التي خرجت من الشاعر صلاح جاهين: "الدرس انتهى لموا الكراريس.. بالدم اللى على ورقهم سال.. فى قصر الأمم المتحدة.. مسابقة لرسوم الأطـفال.. ايه رأيك فى البقع الحمـرا.. يا ضمير العالم يا عزيزى.. دى لطفلة مصرية وسمرا.. كانت من أشطر تلاميذي".

القدر ينقذ طبيب من الموت في مدرسة بحر البقر

حكايات الشهداء في مذبحة بحر البقر كثيرة، لكن القدر لعب دور كبير مع الطبيب حمادة عمران، فقد حكى أنه في يوم 8 أبريل 1970، يوم مذبحة بحر البقر أنه نجا من المذبحة بأعجوبة، فقال: "أبويا يوميها دب خناقة مع أمي على الصبح ومزاجه اتعكر، فلما شافني لابس المريلة اتعصب عليا وطلع غله فيا، وحلف ما أنا رايح المدرسة".

شهداء بحر البقر، فيتو


كان القدر رحيمًا بالطبيب حمادة عمران، وكان قرار والده بعدم ذهابه في ذلك اليوم للمدرسة حكمة عظيمة، فقال حمادة "في هذا اليوم قرر والدي أن يأخذني معه الغيط، وأن أمسك بالفأس عندًا في أمي"، وأضاف الطبيب "كان والدي يعرف أن أمي "موتها وسمها" إن حاجة تعطلني عن المدرسة، كانت عايزة تطلعني مهندس مثل خالي.. خالي الحاضر الغائب دايمًا في المناكفات والمعايرات بين أمي وأبويا!".


واستمر حمادة عمران في سرد حكايته مع القدر، وعدم تواجده في مذبحة بحر البقر في ذلك اليوم، حيث قال: "قلعت المريلة، وارتديت عباءة واسعة ومبقعة تليق مع الوضع الذي أراه، الغريبة إني كنت فرحان! كنت مخنوق من المدرسة وعايز أروح أي حتة إن شا الله جهنم..".

 

مشاجرة والد طفل مدرسة بحر البقر تنقذه من الموت

 واستمر الطبيب حمادة عمران في سرد حكايته في يوم مذبحة بحر البقر فقال: "ركبت الحمار ورا أبويا، ومرينا بطريق المدرسة، شاورت لخالد وصلاح وهم رايحين متكدرين وطلعتلهم لساني، ووصلنا للغيط الساعة الثامنة صباحًا، نزلت من على الحمار، وأمسكت بالفاس، رفعته بالعافية، قبل أن ينادي والدي عليّ بعصبية ويقولي: "هات الفاس ده وروح اقعد تحت الشجرة اللي هناك دي، واوعاك تاخد على كده، مدرستك أهم حاجة، هو النهاردة بس اللي هتريحه..".

شهداء مدرسة بحر البقر، فيتو


وحكي الطبيب "كانت رغبة والدي في تعليمي ضعف رغبة أمي.. من ناحية أب لا يريد لابنه أن يضيع عمره في فِلاحة الأرض، فقد كان يقول: "بتبري الإنسان وتمص دمه"، ومن ناحية تانية لو أنا اتعلمت هيرتاح من سيرة خالي، وهيكسب نقطة عند والدتي".


"قعدت تحت الشجرة على القناية وأنزلت رجلي في المية، وبصيت للسما، كنت عكس كل العيال بحب شكل قرص الشمس أكتر من القمر، كنت بخاف من النجوم وسواد السما، وبحب النهار وبستنى طلعته، كنت عيني زغللت من الظر للشمس، فأخدتها ونزلت على مية القناية".

 

لحظة ضرب مدرسة بحر البقر بطائرات العدو

ويحكي الطبيب عن لحظة الانفجار الذي وقع في مدرسته بحر البقر، فقال: "فجأة حصل اللي قطع تفكيري ورجعني أبص للسما تاني، صوت قوي هزني.. رفعت عيني فلقيت سرب طيارات قريبة، فرحت وهللت وقمت من مكاني أتنطط، طلعت الشجرة في ثانية قال يعني كدة هبقى قريب منهم وأشوف اللي جوة!".

شهداء مذبحة بحر البقر، فيتو


"حسيت الشجرة بتتخلع بيا في نفس الوقت اللي سمعت فيه صوت تكسير وخبط ورزع، فغمضت عيني وحطيت صوابعي في وداني لحد ما الصوت راح واختفي وظهر مكانه صوت أبويا.. انت فين يا عامر؟، نطيت من على الشجرة وأنا مرعوب، قلت هيرميني في الترعة أو هيحدفني بقالب طوب في دماغي، لكن لقيته بيجري عليا بلهفة وبيحضني بعنف، حضن طويل قطعه صوت صويت وصريخ جاي من القرية.."

 

وقال الطبيب: "أبويا خدني في إيديه وجرينا ورا مصدر الصوت، لحد ما وصلنا المدرسة.. عمر المنظر اللي شفته ما فارق أحلامي من ساعتها، المدرسة على الأرض.. رجالة وستات البلد بيجروا من كل حتة في كل اتجاه، الستات كانوا بلبس البيت وبشعرهم عادي.. صوت اللطم على الخدود أقسملك اخترق أذني أكثر من صوت الطيارات والتكسير والرزع اللي سمعته من شوية!  كل ده وأنا مش فاهم أي حاجة، لحد ما لقيت خالد وصلاح متشالين على الأكتاف ووشهم كله دم! كانوا لا حركة ولا صوت ولا رمشة! ركنوهم على جنب، وراحوا يجيبوا غيرهم من تحت المدرسة المتساوية بالأرض..".

مدرسة بحر البقر بعد قصف الفانتوم، فيتو


ويقول الطبيب: "وضعوا جنبهم أطفال كثير على نفس وضعهم، لا صوت ولا حركة ولا رمشة، واللي كان بيطلع حي كانوا بيركبوه على الجرارات الزراعية ويجروا بيه على الصالحية عشان يلحقوه، شفت تلاتين طفل من زمايلي ميتين، وشفت إصابات تخلع القلب، ومع كل ده ما عيطش، ما صرختش، الموقف كان أكبر من استيعابي!".

بقايا مدرسة بحر البقر، فيتو


"أمي ظهرت من المكان وحضنتني هي كمان بعنف، وأنا ولا داري، سحبتني من إيديا على البيت، وجلست أمامي تبصلي مستغربة حالة الصمت دي، غريبة على طفل شاف الهول! ساد الصمت كل حاجة، حتى صويت الستات المكلومة على عيالها انقطع، حسيت بصداع من فرط الصمت، كان لازم أنفجر عشان أرتاح، لكن إزاي؟ مش قادر ومش عارف! ".


"كنت مستني أول حرف يتنطق من أمي أو أي صوت من الشارع عشان أنفجر، فجِه من الراديو.. أيها الإخوة المواطنون جاءنا البيان التالي.. أقدم العدو في تمام الساعة التاسعة وعشرين دقيقة على جريمة جديدة تفوق حد التصور، عندما أغار بطائراته الفانتوم الأمريكية على مدرسة بحر البقر الابتدائية المشتركة بمحافظة الشرقية، وسقط الأطفال بين سن السادسة والثانية عشر تحت جحيم من النيران"  فانفجرت وانفجرت مصر بالكامل".


ونقدم لكم من خلال موقع (فيتو)، تغطية ورصدًا مستمرًّا على مدار الـ 24 ساعة لـ أسعار الذهب، أسعار اللحوم ، أسعار الدولار ، أسعار اليورو ، أسعار العملات ، أخبار الرياضة ، أخبار مصر، أخبار اقتصاد ، أخبار المحافظات ، أخبار السياسة، أخبار الحوادث ، ويقوم فريقنا بمتابعة حصرية لجميع الدوريات العالمية مثل الدوري الإنجليزي ، الدوري الإيطالي ، الدوري المصري، دوري أبطال أوروبا ، دوري أبطال أفريقيا ، دوري أبطال آسيا ، والأحداث الهامة و السياسة الخارجية والداخلية بالإضافة للنقل الحصري لـ أخبار الفن والعديد من الأنشطة الثقافية والأدبية.

الجريدة الرسمية