الفريق عبد المنعم رياض.. الأسطورة الخالدة للعسكرية المصرية
يذخر التاريخ العسكرى بالأبطال والقادة العظام، ومن هؤلاء الذين يتربعون على عرش هذا التاريخ، الفريق عبد المنعم رياض، أحد أشهر العسكريين العرب فى النصف الثانى من القرن العشرين. شارك رياض فى حرب 1948 وتمتع بخبرة كبيرة فى القتال ضد الإسرائيليين، بعد أن شارك فى حرب عام 1956، أو العدوان الثلاثى؛ وفى حرب الاستنزاف عام 1967؛ بالإضافة إلى رسم الخطة التى وضعتها مصر خلال سنوات حرب الاستنزاف لتدمير خط بارليف.
الشهامة والإيثار والتضحية كانت خلق رياض الذى دفع حياته راضيا من أجل القيم التى عاش من أجلها، لهذا لم يكتف الرجل بمكتبه المحصن لاستقبال الأنباء عن قواته، بل قرر أن يكون فى الميدان، فى أقرب نقاط العدو، ولقى ربه شهيدا، بعد أن سطر أروع حروف النصر، وأعاد شحن بطارية الجهاد والرغبة فى الثأر داخل نفوس قواته التى احتشدت من أعلى مستويات الدولة لمعركة الثأر سواء الانتقام لشخصه من الموقع الذى استهدفه، أو الاستعداد بأعلى درجات الجودة والقوة لاسترداد الوطن الذى احتله عدو غاشم لا يؤمن إلا بالدماء والبارود والقتل على أوسع نقاط. وفى ملف «فيتو» نرصد ملامح من حياة الشهيد..
قدراته المتفردة.. آخر اللحظات قبل استشهاده ومن كان بجواره، وكيف انتقل إلى المستشفى من الموقع الذى شهد إصابته القاتلة.. وكيف كرمته الدولة لاحقا، ورأى أبنائه الضباط والجنود ومساعديه فى تضحياته وكفاءته العسكرية.
ملامح من الحياة الشخصية للفريق عبد المنعم رياض
عاش حياته القصيرة التى لم تتجاوز 51 عاما قضى منها 32 عاما كضابط عامل بالقوات المسلحة، لم يتمتع يوما بمباهج الحياة، لم يتزوج أو ينجب أطفالا يشغلونه عن الدفاع عن الوطن وكرمه الله بأن يكون القدوة والمثل لكل أبناء الوطن، إذ كانت أهم متعه فى الحياة هى رؤية النصر فى كل معركة خاضها منذ تخرجه من الكلية الحربية حتى استشهاده فى الصفوف الأولى للقتال.
عبد المنعم رياض لم يكن ضابطا عاديا، ولكنه كان حازما جدا فى عمله ودقيقا فى مواعيده، أما فى حياته الشخصية فكان رياضيا محبا للموسيقى وعاشقا لأغانى وصوت كوكب الشرق أم كلثوم.
وبالرغم من حياته القصيرة، إلا أنه استطاع أن يحصل على العديد من الشهادات العلمية لإيمانه أن العلم هو مفتاح التقدم، فالتحق بكلية التجارة وهو برتبة فريق إيمانا منه بأن الاقتصاد هو بداية التقدم والازدهار لأنه يوفر المال لكل شيء ويصرف على العلم ويزيد البحث والتقدم.
جهود رياض فى الإعداد للمعركة ضد الكيان الصهيونى
قام رياض عقب توليه رئاسة أركان حرب القوات المسلحة بالتعاون مع الفريق محمد فوزى فى تطوير وبناء القوات المسلحة وعلى أسس علمية متقدمة، واستطاع عقب النكسة بأيام أن يحرز تقدما ملموسا فى العمليات على طول الجبهة.
وكانت هناك عمليات ناجحة أعادت الروح المعنوية للجنود والضباط مثل معركة رأس العش وتدمير المدمرة إيلات وغيرها من العمليات التى جعلت العدو الإسرائيلى يدور حول نفسه، بعد أن دمر المطارات المصرية والطائرات واحتل شرق القناة، ولازالت هناك مقاومة ومعارك ناجحة ضده.
المواقع الأمامية فى فلسفة عبد المنعم رياض
أعد الفريق رياض الخطة الكاملة لحرب الاستنزاف بغرض أضعاف قوة العدو وضرب الروح المعنوية لجنوده وتكبيده خسائر كبيرة فى الأرواح والمعدات.
وبدأت حرب الاستنزاف يوم 8 مارس 1969، وكانت تقارير العمليات تؤكد نجاح رجال القوات المسلحة خلال ساعات قليلة فى تحقيق نصر كبير على العدو الإسرائيلى.
ويوم 9 مارس أصر الفريق عبد المنعم رياض التواجد على الجبهة لمتابعة سير العمليات العسكرية ورصد رد فعل العدو الإسرائيلى، واستقل طائرة من قاعدة ألماظة العسكرية متوجها إلى أحد مطارات الإسماعيلية وبدأ مع قادة التشكيل وقاده الأسلحة بمراجعة الخرائط العملياتية ومسرح العمليات.
زار رياض حوالى 5 مواقع، واختار أقرب موقع للعدو الإسرائيلى وهو المعدية نمرة 6 الذى تبعد عنه 250 مترا فقط واخذ نظارة الميدان ليراقب تحركات العدو.
وقام مرافقو الفريق رياض بالاتجاه إلى الحفر لتفادى الإصابة، ولكن القائد بقى واقفا لا يتزحزح من مكانه لمواصلة مراقبة تحركات العدو ووسط إلحاح من الضباط المرافقين له قام باتخاذ عبد المنعم رياض مكانه فى خندق قريب، وإلى جانبه فى نفس الحفرة قائد الجيش الثانى الميدانى، وبالقرب منهما قبع مدير المدفعية فى حفرة قريبة منهم.
وقبل اقتراب عقارب الساعة من الرابعة عصرا سقطت دانة مدفع دبابة باتون عيار 105 مللى وارتطمت على الحافة الغربية للحفرة التى يستتر بها الفريق عبد المنعم رياض فأحدثت الدانة انفجارا قويا وانطلقت شظاياها القاتلة منتشرة إلى أسفل.
أصيب هو والضابط المرافق له، وهنا قال الضابط: “أنا اتصبت يا فندم”، ورد عليه الفريق رياض: “وأنا كمان، لكنها إصابة بسيطة إن شاء الله”.
وبعد خمس دقائق تكلم الضابط مرة أخرى ولكنه لم يتلقَّ ردا من القائد الجريح بعد أن دخل فى غيبوبة ودماؤه الطاهرة تملأ ملابسه العسكرية خاليا من أى رتبة، وتم لف جسد الشهيد فى بطانية رمادى ووضعوه فى سيارة جيب متجها إلى المستشفى الميدانى بالإسماعيلية، ولكن فاضت روحه إلى بارئها، ليضرب لنا أروع المثل والقدوة فى العسكرية العالمية.
استقبال عبد الناصر نبأ استشهاد عبد المنعم رياض
تلقى القائد الأعلى للقوات المسلحة الرئيس عبد الناصر نبأ استشهاد الفريق عبد المنعم رياض أثناء رئاسته اجتماع مجلس الوزراء الذى كان يناقش تقريرا عن سير العمليات العسكرية على الجبهة، فغادر فورا قاعة الاجتماع متجها إلى وزارة الحربية، حيث استمع إلى تقرير تفصيلى عن واقعة الاستشهاد وأمر بعدها بالتحضير للثأر.
وأصدر الرئيس جمال عبد الناصر أوامره للعقيد البطل إبراهيم الرفاعى قائد المجموعة 39 قتال بتحضير عملية للأخذ بثأر الفريق عبد المنعم رياض قبل يوم الأربعين، قائلا للرفاعى: أنا رجل صعيدى ولا يهنأ لى بال حتى أخذ بثأر الفريق من القتلة.
العميد وسام عباس حافظ، أحد أبطال المجموعة ٣٩ قتال بقيادة العميد إبراهيم الرفاعى، يعود بالذاكرة إلى حرب الاستنزاف قائلا: كانت المجموعة ٣٩ قتال بعد كل عملية تختفى من مسرح العمليات وتتدرب فى النيل بالقاهرة، وكل يوم سبت تدبر عملية خاطفة تصطاد بها أحد الجنود أو الضباط الإسرائيليين، أو تلغم طرق يستخدمها قوات العدو أو دورياته فى سيناء.
يضيف: كانت هذه العمليات تتم كل أسبوع حتى يوم استشهاد الفريق عبد المنعم رياض فى 9 مارس 69 الذى كان حزينا بالنسبة لنا ولكل المصريين، لما يمثله هذا البطل من معنى الرجولة والاحترام والتقدير لكل رجال القوات المسلحة بالكامل بل مصر كلها.
وتابع: عندما كلف برئاسة أركان حرب القوات المسلحة بعد النكسة مباشرة بدأ فى إعادة بناء القوات المسلحة بأسلوب علمى متقدم وعندما كلف الرئيس الراحل جمال عبد الناصر مجموعة “39 قتال” بقيادة الرفاعى بمهمة الثأر من عناصر الموقع الذى أطلق النار عليه فى الضفة الشرقية، قمت بعمل الاستطلاع للمكان وعدد الجنود بداخله ونوبات الحراسة وتغيير الخدمات وتسليح الموقع بالكامل.
ثم بدأت المجموعة بالتدريب ليل نهار على تنفيذ المهمة التى تحدد ميعادها يوم 19 أبريل، ذكرى الأربعين للشهيد البطل عبد المنعم رياض، ومساء يوم العملية بدأت المدفعية التمهيد النيرانى حتى يدخل اليهود الخنادق خوفا من الإصابة المباشرة، واصطحبنا القبطان وذهبنا إلى نادى اليخوت بهيئة قناة السويس للاستعداد ونفخ القوارب والتخفى من قوات العدو.
استكمل: بدأنا فى العبور حتى وصلنا إلى الموقع الذى خرجت منه دانة المدفعية التى أودت بحياة الشهيد رياض فى منطقة المعدية نمرة 6، وكانت المنطقة المواجهة لها بالنسبة للعدو هى منطقة لسان التمساح.
وأكمل وسام: تحركنا بالليل ووصلنا للضفة الشرقية حاملين معنا أنابيب صغيرة مملوءة بالغاز ووضعناها فى المزاغل التى يخرج منها الإسرائيليون بنادقهم فتنفجر بالداخل فيقتل بعضهم من الاختناق ومن يحالفه الحظ يخرج سالما نقوم نحن بقتله بالأسلحة الخفيفة “الرشاشات أو البنادق” وقتلنا منهم نحو 44 جنديًّا إسرائيليا وقمنا بإبادة الموقع عن بكرة أبيه ورفعنا العلم المصرى عليه احتفالا بالأخذ بالثأر.
وتابع: تواجدنا فى الموقع نحو 3 ساعات ومزقنا العلم الإسرائيلى ورفعنا العلم المصرى عليه، وكنا ننوى احتلاله، ولكن صدرت لنا الأوامر بالانسحاب فورا لأن العدو كان يعد الاحتياطى والطيران لمهاجماتنا، وأصيب عدد من الضباط والجنود من مجموعتنا بالفعل، ولكنها كانت إصابات خفيفة، وزارهم الرئيس جمال عبد الناصر بنفسه بمستشفى القصاصين بالإسماعيلية عرفانا منه بنجاحنا فى الأخذ بثأر الشهيد البطل الفريق عبد المنعم رياض وقام بتقليد باقى المجموعة المشاركة وسام الشجاعة العسكرى.
البطل سمير نوح يكشف تفاصيل اللحظات الأخيرة فى حياة عبد المنعم رياض
لم يكن استشهاد الفريق عبد المنعم رياض رئيس أركان حرب القوات المسلحة حدثا عاديا، إذ كان البطل يعنى الكثير لرجال القوات المسلحة، وكان له شعبية وحب داخل كل جندى وضابط لأنه كان مثال للعسكرية المصرية الأصيلة.
ومن شهود العيان على عملية الثأر للفريق عبد المنعم أيضًا البطل سمير نوح أحد أبطال الصاعقة البحرية بالمجموعة ٣٩ قتال، والذى يروى لنا أنه كان ضمن مجموعة الرئيسية للاقتحام تحت تمهيد من المدفعية المصرية من منطقة الإسماعيلية
يقول نوح: عقب وصول المجموعة إلى ضفة القناة الشرقية اتصل الرفاعى بالقيادة لإيقاف قصفة المدفعية وكان وقتها قائد المدفعية العميد محمد عبد الحليم أبو غزالة، ليبدأ الهجوم على الموقع الحصين حتى تم عبور الأبطال.
وأضاف نوح أنه كان ضمن المجموعة التى تسلقت ظهر الموقع ومعه كل من الأبطال هنيدى والجيزى ومحمد شاكر والسيد محمد أحمد وحسن البولاقى وغريب جوده وكان قائد مجموعة الاقتحام وقتها الرائد أحمد رجائى عطية ومن خلال فتحات التهوية تم إسقاط قنابل دخان وقنابل طرقية صوتية ولم يستطع أفراد الموقع الإسرائيلى تحمل الاختناق وبعضهم مات فى الداخل والباقى فتح البوابات وخرج تحت ساتر من طلقات عشوائية لرشاشاتهم لكننا استطعنا النيل منهم وتصفيتهم.
ويقول البطل سمير نوح والفرحة تبدو فى عينيه: كانت المعركة اللحظة التى انتظرناها، واستطعنا نسف مخزن الذخيرة، وسيارة جيب مجهزة لاسلكيًا، وكل شيء موجود داخل الموقع من أجهزة وأسلحة ومعدات، كما تم تدمير دبابتين للعدو كانتا قادمتين لنجدة الموقع.
يقول نوح إن أهم الغنائم التى حصلوا عليها من هذا الموقع «رشاش عوزى»، وتم إهداؤه فيما بعد إلى الرئيس السادات عند زيارته لمقر المجموعة 39 قتال بقيادة الشهيد البطل إبراهيم الرفاعى عام 1971، ومنح الرئيس المجموعة خلالها وسام الجمهورية.