منطق القوة.. يحكم!
رغم الكلمات الأولى التي جاءت في ديباجة ميثاق الأمم المتحدة "إنقاذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب" والتي كانت الدافع الرئيسي لإنشاء الأمم المتحدة عام 1945، التي عانى مؤسسوها من دمار عالمي وحروب، إلا أن نفوذ المنظمة الدولية يتقلص أو ربما ينهار مع الوقت.
فما يحدث في قطاع غزة بمثابة إبادة جماعية على مرأى ومسمع من العالم أجمع وأمام الأمم المتحدة المنظمة الدولية الأم ومظلة القانون الدولي، وأداتها الرئيسية مجلس الأمن، الجهاز الذي تقع على عاتقه المسؤولية الرئيسية، بموجب ميثاقها، في الحفاظ على صون السلم والأمن الدوليين..
فعندما يتم تقديم إليه شكوى تتعلق بخطر يهدد السلام، يتواصل فورا مع أطراف الصراع لحله سلميا، والأهم أن يصل لوقف إطلاق النار في حالة الصراع لمنع انتشار الأعمال العدائية على نطاق أوسع، وهو ما لم يستطع التوصل له في حالة العدوان على غزة والمستمر بأبشع صور العدوان الشامل برا وبحر وجوا ضد مدنيين ومنشآت مدنية لا يجوز استهدافها وقصفها.. فيما يعد من جرائم الحرب بموجب القانون الدولي.
الأمم المتحدة ومجلس الأمن
وفشل مجلس الأمن في اتخاذ أي قرار سواء لإدانة ما يحدث أو طلب وقف إطلاق النار لأسباب إنسانية ووصول المساعدات الآمنة والكافية والامتثال للقانون الدولي الإنساني، والمفترض أن مجلس الأمن يحمي حياة كل المدنيين دون تمييز أو هرمية، ويحقق ويحافظ على السلم والأمن الدولي، لكن اتضح أنه غير قادر على القيام بأبسط مهامه..
نتيجة الانقسامات السياسية التي يعانيها مجلس الأمن في حد ذاته، بين القوى الكبرى، مما جعل دور المنظمة الدولية في تحقيق الأمن والسلم الدوليين يتجه الى عدم اليقين، حتى إن عنوان الجلسة العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2023 كان "إعادة الثقة وإحياء التضامن الدولي"، مما يعطي دلالة قوية على نقص كليهما..
فلم تقم المنظمة الدولية بردود فعل قوية تجاه الأزمات خلال عام 2023 حتى الآن، والوضع في غزة في ظل القصف المستمر عليها أبشع مثال على عدم جدوى الأمم المتحدة وفشلها في تمرير قرارات ملزمة بشأن تصاعد الوضع في قطاع غزة وما يعانيه من أزمة انسانية خطيرة.
ورغم أن القيود الجيوسياسية على الأمم المتحدة ليست جديدة لكن تأثيراتها على المنظمة الدولية تزداد، فالانقسامات العنيفة داخل مجلس الأمن بين روسيا والصين من جانب والقوى الغربية والولايات المتحدة الأمريكية من جانب آخر من قبل الحرب على أوكرانيا، الأمر الذي قيد وقوض التعاون بين هذه القوى تجاه القضايا الصعبة..
وعامة ومع زيادة قتامة الصورة لم يتمكن مجلس الأمن إلا من تقديم استجابات باهتة تجاه العديد من الأزمات، مما دفع الجهات الإقليمية الفاعلة الى أخذ زمام المبادرة، وإن لم تنجح، وهو ما جعل الأمم المتحدة على الهامش حتى عملياتها لحفظ السلام نالها الضعف حتى طالبت الدول برحيلها من أراضيها..
مما يطرح التساؤل حول فاعلية المنظمة كلاعب لتحقيق السلم والأمن الدوليين بعدما فقدت الأصول العسكرية والاقتصادية التي كانت تستند عليها، وزيادة الضغوط عليها حتى بالنسبة للمساعدات الإنسانية، حتى تصاعدات اقتراحات بأن تركز الأمم المتحدة على التنمية والمشاكل الاقتصادية العالمية بدلا من صون السلم والأمن الدوليين، ويصبح من الضروري إيجاد منهج عمل يضع الاستقرار والسلم الدولي في الصدارة.
هيمنة أمريكية
واستمرار الاعتداءات الإسرائيلية على قطاع غزة، هو تجسيد لهيمنة القطب الواحد المتمثل في الولايات المتحدة الأمريكية ورفض تعدد القطبية، رغم كل النداءات الدولية والإقليمية بتبني موقف موضوعي عادل بشأن القضية الفلسطينية، والتحذير من خطورة الوضع في الشرق الأوسط وخطورة استمرار العدوان واتساع الصراع في المنطقة.
وحتى مع نداءات الصين واستعدادها للعمل مع الولايات المتحدة الأمريكية للمساهمة في تقدم بعضهما البعض من أجل الرخاء المشترك على أساس ثلاث مبادئ الاحترام المتبادل والتعايش السلمي والتعاون المربح للطرفين وللعالم أجمع، لكن لم يجد هذا التوجه مجالا له في وقف تصاعد الوضع في قطاع غزة، بسبب الدعم الأمريكي الكامل لحق اسرائيل في الدفاع عن نفسها حتى مع ما تقوم به من عدوان سافر تجاه المدنيين في قطاع غزة، والذي وصل الى حد العقاب الجماعي لكل سكان القطاع وقطع كل سبل النجاة أو الحياة عن سكانه.
فحقيقة، ومنذ فترة طويلة والأمم المتحدة بحاجة إلى إصلاحات عميقة، وهذا ما تجمع عليه معظم دول العالم. غير أن المشكلة في التوفيق بين متطلبات الإصلاح ومصالح الدول العظمى التي تتمتع بامتيازات واسعة في النظام الحالي للمنظمة الدولية، علي الرغم من زيادة عدد أعضاء المنظمة الدولية حوالي خمس أضعاف عدد الأعضاء الذي بدأت به..
فرص الإصلاح
ورغم كل التغيرات التي شهدتها الساحة الدولية منذ إنشائها، فإن الأمم المتحدة لم تعرف إصلاحات حقيقية تراعي من خلالها مصالح أغلبية الدول الأعضاء أو تمكنها من القيام بواجبها الأساسي نحو حفظ السلم والأمن الدولي، حتى بات الأمر أنه لا يوجد قانون دولي اتفق الدول الأعضاء في النظام الدولي على وضعه والالتزام به كنوع من التنظيم للعلاقات الدولية سواء في السلم أو الحرب.
كما أصبح الأمر محبطا أمام حقيقة واضحة أن فرص الإصلاح ستظل محدودة رغم تأييد الغالبية من الدول الأعضاء، وذلك نظرا لوضعية القوى العظمى وهيمنتها على الأمم المتحدة وخاصة مجلس الأمن من خلال حق النقض.
والحال كما هو بل وأكثر تعقيدا في المنظمة شبه الإقليمية، جامعة الدول العربية، التي نص ميثاقها على أن قراراتها ملزمة لمن يوافق عليها وغير ملزمة لباقي الدول الأعضاء، أي أن ضعفها نبع من ميثاقها بالأساس، فيما كبل حركتها تجاه العديد من القضايا الحاسمة التي طرأت في المحيط العربي وعلى رأسها القضية الفلسطينية، فضلا عن الانقسامات العربية حول مختلف القضايا والأزمات العربية.
وأمام الوضع الإنساني الخطير في قطاع غزة، أضحت المنظمات الدولية والإقليمية وما وضعته وترعاه من قواعد للقانون الدولي أو الجهات القانونية كمحكمة العدل الدولية أو المحكمة الجنائية الدولية هياكل إدارية بيروقراطية عتيقة لا تقوم بدورها الموضوعي، إلا إذا توافرت الإرادة السياسية، وخاصة للقوى العظمى، وتجاه الدول الضعيفة أو الصغيرة، فيما يعد خروجا على قواعد العدالة والسلام العالمي.
لأن الحكم ليس للقانون الدولي بل يستند إلى القوة فيما يعتبر عودة للنظرية الواقعية في العلاقات الدولية التي لا تعترف بأهمية القانون الدولي أو المنظمات الدولية بل بحسابات القوة لتحقيق المصلحة القومية، وليس التعاون من أجل تجنب الصراع بين الدول، وأصبح القانون الدولي يختلف عن الواقع الدولي، فعندما لا يمتلك القانون القوة لتنفيذه فعليا، تنتفي قيمة القانون وقيمة العدل والإنسانية.