دموية ألمانيا في غزة
ويبدو لى أن ألمانيا التى ارتكبت فى تاريخها مذابح وإبادات خشيت ألا تكون مشاركا فعالا فى إبادة غزة، فدخلت على الخط دعما للكيان الصهيونى فى محنته أمام محكمة العدل الدولية، دون أن يندى لها جبين أو تخجل من فعلتها، فقالت قولتها الأخيرة بالدخول على خط الدفاع عن القتلة.
وقد يذكر العامة والخاصة لألمانيا ارتكابها محرقة ضد اليهود في عهد هتلر، ولكنّ كثيرًا منا لم يطلع على تفاصيل مجازر أخرى ارتكبها الألمان؛ إبادة ضد الشعب الناميبى عندما أعلنت ألمانيا احتلالها لناميبيا رسميا فى مؤتمر برلين بين عامى 1884 و1885 تحت مسمى الاستعمار.
وبالفعل بدأ الوجود الألمانى في دولة ناميبيا فى منتصف القرن التاسع، أى قبل إعلانها الاحتلال رسميا، مع توافد المبشرين والتجار الألمان إلى الدولة المنكوبة.. في ذلك الحين كانت قبائل هيريرو والتى تمثل غالبية السكان تعمل بالزراعة ورعاية الماشية.
تعرضت ماشية الناميبيين لطاعون قضى على الأخضر واليابس، فلجأوا إلى العمل مع المحتل، واستغل الألمان هذه الظروف، فاشتروا الأرض والبقية الباقية من الماشية من المواطنين، فكانت بداية إعلان ناميبيا مستعمرة ألمانية، ولم تمض السفينة إلى حيث أرادها المحتل الجديد مع حالة الاحتقان بين أصحاب الأرض والمحتل.
ارتفعت حدة التوتر والسخط بين الجماهير الناميبية والمستعمر الألمانى، وبدأ أول صدام في بلدة أوكاهاندجا في مثل هذا الشهر من العام 1904، وبالطبع لم تكن القوى متكافئة، مثلما هو الحال بين الفلسطينيين وبين الاحتلال الصهيونى.
وما أشبه الليلة بالبارحة، فقد قام الفريق لوثر تروثا الألمانى بحصار السكان فى منطقة ووتربيرج، وقطع عنهم كل سبل الحياة، كما أصر على قطع كل الطرق التى قد يهربون منها.. بالضبط مثلما يفعل نتنياهو وعصابته في حصار غزة، فماذا فعل الجنرال الألمانى بعد إحكام السيطرة على السكان العزل؟
الفارق بين الناميبيين والفلسطينيين أن السكان الناميبيين استسلموا، وتصور البعض أن هذا الاستسلام هو نهاية المعركة، غير أن الواقع أفرز أول إبادة عرقية فى القرن العشرين، وفر من بقى من السكان الأصليين إلى صحراء كالاهارى باتجاه بوتسوانا التى كانت فى حينها مستعمرة إنجليزية.
في أكتوبر من العام 1904 أمر الجنرال الألمانى بإبادة كل أفراد قبائل هيريرو الذين تطأ أقدامهم الأرض الألمانية.. هكذا أصبحت الأرض ألمانية، مثلما يقول نتنياهو، وقد شمل قرار الجنرال الألمانى النساء والأطفال وغير المسلحين بالضبط كما تفعل عصابة الصهيونية فى غزة!
وقرأ الجنرال الألمانى القرار على من كانوا لديه من الأسرى وأطلق سراحهم لإبلاغ أفراد القبيلة، وطاردت القوات الألمانية الجميع فى الصحراء تقتل كل من تصادفه، كما منعتهم من الوصول إلى منابع المياه وسممت الآبار.. صورة كربونية مما يفعله نتنياهو ورفاقه في غزة.
استيقظ ضمير الشعب الألمانى، فطالبوا بوقف المذابح، وتصور البعض أن هذا هو نهاية الفصل الإبادى اللا إنسانى، حيث تقرر إنشاء خمس معسكرات لنقل أفراد القبائل إليها، وأغلقت هذه المعسكرات، وقد بلغ عدد شهداء قبائل هيريرو في ذلك الوقت 60 ألف شهيد من أصل مائة ألف هو عدد أفراد القبيلة، أى أن الألمان قضوا على 60٪ من السكان، بينما نتنياهو لا يزال أمامه طريق طويل تدعمه ألمانيا لاستكمال التاريخ الألمانى فى ناميبيا.
في العام 1907 أصدرت سلطات الاحتلال الألمانى قرارا بمنع امتلاك الأرض والماشية والخيول على السكان الأصليين، وأمام الجبروت والقتل الممنهج ووصول عدد ضحايا الإبادة الألمانية إلى قتل 80٪ من سكان ناميبيا هرب الباقون إلى جنوب أفريقيا.. وهذا ما يسعى إليه نتنياهو الذى سار على درب وهداية التاريخ الألمانى الدموى.
ظل هذا الصرع وقد أفرز أبطالا من ناميبيا قادوا حركة مقاومة تعتمد على سرد ما جرى، وكيف تمكنت ألمانيا من قتل 80٪ من سكانها والقضاء على الإرث الثقافى لمعظم القبائل حتى هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، فكانت حركة التحرير التى أنقذت من تبقى لاستكمال مسيرة الاعتراف بالإبادة الألمانية لشعب ناميبيا.
وقد يكون هذا هو سر إقدام ألمانيا على مناصرة الكيان المحتل والانضمام إليه أمام محكمة العدل الدولية، ويبدو أن ألمانيا ترى في دعوى جنوب أفريقيا ضد الكيان المحتل محاولة لإثناء نتنياهو عن استكمال مسيرة الإبادة والنجاح فيها كما فعل أجداد المستشار الألمانى أولاف شولتس.
وهذا أيضًا هو سر تحرك ناميبيا لمناصرة جنوب أفريقيا التى كانت ملاذا آمنا لبقايا الهاربين من جحيم أجداد شولتس، لتبدأ معركة جديدة بين ناميبيا بطل المأساة والقاتل الألمانى الجديد ممثلا في شولتس ورفاقه في ألمانيا، التى يبدو أنها تستعيد مجدها الدموى في إبادة غزة وأهلها، كما أبادت سكان ناميبيا وأحرقت اليهود في محارقها.