ماذا جرى لمصر فى 100 عام؟.. الروح الوطنية تغلبت على المصالح الخاصة.. والتوحد خلف «الجلاء» منح الساسة قوة كبرى فى مواجهة الإنجليز والقصر سر خلطة أحزاب ٢٤
100 عام مضت منذ عام 1924 إلى عامنا هذا 2024، كل شيء تغير، وتغيرت معه مصر ربما من النقيض إلى النقيض، فى السياسة والاقتصاد والثقافة والفن وكافة جوانب الحياة فى بلادنا، كان رئيس الحكومة قبل مائة عام هو الزعيم الثورى سعد باشا زغلول الذى نجح باكتساح فى أول انتخابات برلمانية فى تاريخنا بعد صدور دستور ١٩٢٣، واليوم يشغل هذا المنصب الدكتور مصطفى مدبولي.
كان اقتصادنا أقوى من اقتصاد المحتل الإنجليزي، الجنيه كان يساوى 5 دولارات أو 7 جرامات ذهب، أما الآن فالدولار بأكثر من 30 جنيها فى سعره الرسمى وفى السوق الموازية أو السوداء يزيد عن 55 جنيها، كانت بلادنا تحقق الاكتفاء الذاتى من القمح، واليوم لا تزال تراوح مكانها فى خطط الاكتفاء الذاتى من هذا المحصول الاستراتيجى فى ظل أزمة عالمية عاتية جراء وباء كورونا فى عام 2020 والحرب الروسية الأوكرانية وما تلاها من اشتعال التضخم فى العالم.
على صعيد الحياة السياسية، كانت الأحزاب على قلتها لها دور كبير فى مواجهة المحتل والقصر الملكى على السواء، واليوم يقف أكثر من 100 حزب فى خانة الابتعاد عن المواطن وقضاياه وهمومه.
كيف كانت الحياة فى مصر عام 1924، وكيف هى اليوم فى عام 2024، وماذا جرى لبلادنا التى تواجه تحديات كبيرة، ويعيش فيها الناس يرقبون غدا أفضل، وقرارات تخفف أزماتهم اليومية ولا تزيد أوجاعهم المعيشية.
“فيتو” ترصد فى هذا الملف الحياة فى مصر بين ضفتى هذين التاريخين، فإلى التفاصيل:
تملك الأحزاب المصرية بصمة كبرى فى تاريخ النضال الوطنى، لم تتوقف عند الزخم السياسى وتخريج كفاءات على أعلى مستوى لنقل المجتمع المصرى إلى أزهى عصور الحداثة خلال الحقبة الأولى من القرن الماضى، والتى استمرت حتى قيام ثورة يوليو عام 1952، لكنها تربعت على عرش الوطنية، دفع الوفد والأحرار الدستوريين والحزب الوطنى أثمانا باهظة رغم الاختلاف الجذرى بينهم، والتنافس بل والصراع أحيانا، إذ التف الجميع حول هدف وطنى وهو إخراج الاحتلال من مصر.
بدأت الحياة الحزبية بشكل حقيقى فى مصر سنة ١٩٢٤، وتحديدا فى أعقاب اندلاع ثورة ١٩١٩ وكانت مرحلة من الزخم السياسى وعامرة بالفكر والثقافة يقول الدكتور جمال شقرة أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة عين شمس.
كان دستور ٢٣ بوابة عبور مصر إلى عالم الدول الديمقراطية الحديثة، واتبعت الدولة المصرية آنذاك نموذج الملكية الدستورية المتبع فى أعتى ديمقراطيات العالم على أمل نضج التجربة لاحقا، لهذا يختلف المؤرخون فى تسميتها، البعض يراها مرحلة ليبرالية خاصة، والبعض يطلق عليها شبة الليبرالية لأن التجربة كانت فى بدايتها ولم تكتمل بعد.
يقسم الدكتور جمال شقرة أستاذ التاريخ الحديث بجامعة عين شمس موازين القوى السياسية خلال هذه الفترة المهمة فى تاريخ مصر، الاحتلال الإنجليزى من ناحية حتى معاهدة ١٩٣٦، والملك، وقوة الأحزاب، وهذا الثالوث والتنافس الشرس بينه هو ما منح هذه المرحلة السمة التى تميزت بها.
ولم يكن دستور ١٩٢٣ منزها رغم كل الإشادات التاريخية فى حقه، إذ حرص الملك فؤاد على إيجاد ثغرات تسمح له بممارسة هيمنة كاملة على الحكم، خاصة أنه الحاكم الذى ولدت فى عهده، لكن الحراك السياسى الوطنى ضد الاحتلال منح الأحزاب دورا مهما، خاصة الوفد، وضاعف من ثقلها أمام سلطة القصر خلال الفترة من عام 1923 وحتى معاهد عام 1936.
لم تكن الليبرالية جنة الله فى الأرض للدولة المصرية، لهذا كانت النزعة الرأسمالية لأقوى الأحزاب المدنية الحاكمة وعلى رأسها الوفد من أهم أسباب ترهل شعبيته، وانعكس ذلك على مولد الجماعات الأيديولوجية مثل مصر الفتاة الذى تحول لاحقا إلى «الاشتراكى المصرى» وجماعة الإخوان ومنظمات اليسار المصرى الماركسى.
البعد الإنسانى والفقر ومداعبة أحلام الشريحة العريضة المهمشة من الجماهير منحت التيارات الوليدة حالة من الزخم، وتسببت فى حراك سياسى آخر، وصعدت إلى قمة الجماهيرية بعد ثورة 1952 بسبب نزعتها الاشتراكية وخدمتها مصالح الطبقات الدنيا.
توحدت هذه الطبقة السياسية مع توجهات سلطة يوليو، وقراراتها الاستراتيجية بتأميم قناة السويس وتحديد الملكية والإصلاح الزراعى، وكلها كانت أحلاما صعبة المنال.
توحيد الجميع خلف هدف واحد وهو جلاء الإنجليز عن مصر كان سمة تلك الفترة وفقا للدكتور عاصم الدسوقى أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة القاهرة.
ويضيف على قمة الأهداف العليا للنخب الوطنية منذ تأسيس مصطفى كامل للحزب الوطنى ١٩٠٧ كان جلاء الاحتلال، لهذا انضم آلاف المصريين إلى الحزب على رأسهم صفوة المجتمع، ثم انهار الحزب الوطنى بعد قرار الزعيم محمد فريد الذى خلف مصطفى كامل الهجرة إلى الخارج هربا من بطش السلطة وبعد سلسلة محاكمات استهدفت تغييبه خلف السجون، وكان ذلك درسا مهما فى التاريخ الوطنى، يجب تحمل تكلفة الموقف السياسى كاملا من داخل الوطن.
مع دوران عجلة الزمن، جاءت الفرصة على طبق من ذهب لإنشاء الوفد بعد تراجع الحزب الوطنى، إثر تصريح للرئيس الأمريكى ويلسون بعد الحرب العالمية الأولى نادى فيه بحق تقرير المصير للشعوب، وتلقف المصريون الفرصة، وتشكل وفد سعد زغلول ورفاقه.
سلطة الاحتلال ولأنها قمعية وترفض النضال الوطنى الذى يعرى مبادئها الزائفة، فرضت الحماية على مصر ورفضت الموافقة على سفر الوفد، يقول الدسوقى: “خرجت المظاهرات فى كل أنحاء البلاد بعد أن اعتقل سعد زغلول ونفى إلى جزيرة سيشل، واضطرت السلطات البريطانية فى النهاية السماح له بالسفر، ولكن كان المؤتمر قد انتهى، ولم يتوقف الوفد عن النضال لأن الهدف العام للجميع كان الجلاء قبل أى شيء آخر”.
لا يختلف الدكتور عبد المنعم الجميعى، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر، عن توصيف الخبراء للفترة من عام ١٩١٩ وحتى ١٩٢٤ إذ يعتبرها مرحلة تكاتف كل القوى والأحزاب حول هدف واحد، وهو مواجهة الاحتلال والدفاع عن استقلال البلاد، فى مرحلة تميزت بالزخم السياسى والوطنية، وتسيد هذا النضال «جيل المحامين» فى الأحزاب، الذين كانوا صفوة المجتمع المصرى خلال هذه الحقبة.