طوفان الأقصى.. أنطونيو جوتيريش "الإنسان".. دخل التاريخ بموقفه المناهض للاحتلال الإسرائيلى وحديثه بلسان الضمير الإنسانى لنصرة غزة
يوم 7 أكتوبر 2023 ليس مجرد تاريخ طوى بنهاية العام، وتداعياته لم تنتهِ عند حد هجوم المقاومة الفلسطينية على مستوطنات غلاف غزة فى العملية البطولية «طوفان الأقصى» وما تبعه من عدوان غاشم ينفذه الاحتلال الإسرائيلى حتى طباعة هذه السطور.
صحيح أن «طوفان الأقصى» حملت مكاسب عسكرية وسياسية وخلفت شهداء يصعب ذكر أعدادهم هنا لصعود المئات من أرواح الأبرياء كل دقيقة، لكنها طوفان هادر أسقط الأقنعة وفضح مكنون النفوس، لا حقوق للإنسان ولا دعم للديمقراطيات ولا حتى حصانة من قتل الأطفال فى سبيل تحقيق الأهداف السياسية.
سقط قناع الزيف عن أمريكا ورئيسها جو بايدن، الذى ساند القتلة فى الاحتلال الإسرائيلى بنيامين نتيناهو وعصابته الشريرة، الغرب المتحضر اتضحت عنصريته ويرى زعماء دوله أنه لا مكان للعرب (المسيحيين قبل المسلمين) على وجه الأرض، صادروا حقهم فى أوطانهم، وطل الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون ورفاقه من قادة الغرب بسلوكيات وتصريحات إعلامية أقرب فى وصفها بـ«الجعجعة الممجوجة» يوما مع إسرائيل وآخر مع فلسطين، والهدف ترضية كفيلهم العالمى «أمريكا»، وغاب عن الجميع الوازع الإنسانى والأخلاقى.
المنظمات الدولية التى طنت آذان البشر منذ عقود كشفت وجهها القبيح، وتبين أن قواعدها ولوائحها صنعت لتنفذ على الضعفاء، لا مجال لفرض قرار على إسرائيل، لم تعد عصبة الأمم، بل الأصح وصفها بـ«لعبة الأمم».
الإعلام الغربى الذى اعتقد العرب فى خيم الصحارى أنه منبر الحقيقة، ناله من طوفان التعرية ما يكفى للانصراف عنه، أسقطت عنه ستار الثقة العمياء مراسلة «سي إن إن» كلاريسا وارد، التى استبدلت دور الكاميرا من نقل الحقيقة إلى اختبار قادتها فى تمثيل الفزع والهرب من عدو وهمى يذبح الأطفال فى المستوطنات ويغتصب النساء، تناست أنه ذهب للدفاع عن أرضه ومصيره وليس لديه وقت كافٍ يمنحه رفاهية ممارسة الإباحية منتظرا قصفه قبل قذفه.
قديما قالوا: «جزى الله الشـدائد كـل خير.. عرفت بها عدوى من صـديقى». وهو ما حدث فى طوفان الأخلاق الذى كشف حقيقة الوجوه الفاعلة بأزمة غزة، الصورة لم تكن سوداوية فى كل جوانبها، وأظهرت فى المقابل وجوه رجال شرفاء من المشرق والمغرب ساندوا أبطال الأزمة؛ السنوار ورفاقه المرابطين هناك.
ساندهم رجال فى مواقع مختلفة لم يتركوهم فريسة لمحتل غاشم وأعوانه، هناك من يمتلك السلاح، واستخدامه بدون تفكير لم ينشغل بالعواقب، ومنهم من استغل وظيفته السياسية أو الدبلوماسية لمساندة شعب أعزل يتلخص حلمه فى أربعة جدارن ومقبرة تستر جثمانه فى أرضه.
الخلاصة، سقطت الأقنعة وتكشفت الحقيقة، رأينا وجوها عليها غبرة، وشاهدنا وجوها ناضرة.
ولأن التاريخ الحديث لا يرحم العقول ويسحب من الذاكرة مخزون دقائق لتقاطر الأحداث حولنا.. تقدم «فيتو» فى هذا العدد توثيقا لمواقف الرجال «الشرفاء والقتلة» فى أزمة غزة، ربما يعثر عليه شاب عربى يجهل ما حدث ولا تحتفظ طفولته البريئة بذكريات مؤلمة نتابعها يوميا. مساهمة متواضعة من المشاركين فى صياغة سطور فى مساندة القضية.
لسنوات طويلة كان حرف «النون» المفضل لدى من شغلوا منصب الأمين العام للأمم المتحدة فى بياناتهم، وخاصة بان كى مون الأمين قبل الأخير، لا تغرد خارج سرب مفردات «نشجب ونندد وندين ونطالب»، كانت أقرب إلى بيانات الجماعة العربية منزوعة الدسم وخالية المضمون ولا تأتى بجديد، حالة جمود فى رد فعل منظمة أممية تحول الجلوس على رأسها إلى هدف لشاغليه مرهونة بترضية أمريكا وإسرائيل والقوى العظمى الفاعلة.
كسر أنطونيو جوتيريش، هذه النمطية وخلق لنفسه «ألتراس» فى العالمين العربى والإسلامى بسبب تصريحاته المنحازة لضحايا غزة والمهاجمة للاحتلال الإسرائيلى. «جحيم ومجاعة وحرب إبادة.. إلخ» من المفردات التى جعلته هدفا مشروعا لـ«تل أبيب»، ولولا المخاوف من الضغوطات الدولية على عصابة نتنياهو لنال الرجل مصير الكونت فولك برنادوت، الدبلوماسى السويدى الذى ترأس الصليب الأحمر السويدى وقتله الصهاينة فى 17 سبتمبر 1948 بالقدس المحتلة.
جوتيريش المولود فى 30 أبريل 1949 بالعاصمة البرتغالية لشبونة، وثق التاريخ الحديث له موقفه المناهض للاحتلال الإسرائيلى، وتحدثه فى الجلسات العامة الأممية بلسان الضمير الإنسانى بعيدا عن الاعتبارات السياسية الأخرى، دراسته الفيزياء والهندسة الكهربائية فى المعهد العالى للتكنولوجيا الذى تخرج فيه عام 1971، ليبدأ بعدها ممارسة العمل الأكاديمى أستاذا مساعدا، جعلت منه رجل معادلات ينتظر نتائج واضحة، مطلبه الدائم والأساسى إدخال المساعدات ووقف إطلاق النار، واعتبر أن هجوم طوفان الأقصى لا يرقى ليصبح رخصة قتل وإبادة شعب بطريقة لا تتناسب مع رد الفعل.
وكعادة الاحتلال فى الاتهامات المعلبة اتهموا الرجل بدعم الإرهاب فى إشارة إلى حركة حماس، وأغفلوا أنه كان رئيسا للوزراء فى بلاده خلال 1996-2002، وعمل رئيسا للمجلس الأوروبى عام 2000، ورئيسا لمنظمة الاشتراكية الدولية من 1999 إلى 2005، كتتويج لمسيرته السياسية التى بدأت منذ عام 1973، حينما انضم للحزب الاشتراكى البرتغالى وتولى أمانته العامة فى 1992.
على ما يبدو أن تاريخ جوتيريش السياسى ليس فقط سبب شعوره بالمسئولية تجاه غزة وشعبها، لكن تكليفه لفترتين حتى نهاية عام 2015 بمهمة المفوض السامى للأمم المتحدة لشئون اللاجئين، لمعالجة أزمة اللاجئين فى الشرق الأوسط، جعله يدرك حجم المعاناة فى تلك المنطقة المأزومة فى العالم، الغائب عنها حق «الفيتو» لحمايتها فى المجتمع الدولى.
الرجل الإنسان، معتاد على الصدام مع الدول العظمى، وسبق له أن انتقد تعامل البلدان الغنية مع أزمة اللاجئين السوريين، بقوله حينها: «للأسف لا يلاحظ الأغنياء وجود الفقراء إلا بعد أن يدخل الفقراء باحات الأغنياء، لم يكن هناك إدراك فى العالم المتقدم لمدى خطورة هذه الأزمة إلا بعد أن شهدنا دخول هذه الحركة الضخمة إلى أوروبا».
رغم شغله منصبا أمميا يعترف أن المجتمع الدولى عاجز عن منع وقوع الصراعات، معتبرا أن الأسباب الجذرية للنزاعات هى الفقر وعدم المساواة، وانتهاك حقوق الإنسان، وتدمير البيئة.
الكرامة الإنسانية ستظل جوهرا عمليا.. كانت هذه العبارة بمنزلة أداء يمين وقت توليه منصبه كأمين عام للأمم المتحدة عام 2017، بعد ترشيحه قبلها بعام للمنصب خلفا لـ«بان كى مون» الذى انتهت ولايته نهاية 2016، واعتبرت حكومة بلاده حينها أنه يملك المؤهلات التى تجعله مرشحا مثاليا.
بطبيعة الحال الرجل قدم ما عليه تجاه معاناة غزة، وقال للعالم مطالبه، وسيسجل كتاب التاريخ ما قاله لنصرة مدنيين عزل يقتلون بلا رحمة لطفل أو مرأة، لكنه يواجه عصابة أممية لا يمكن تسميتها عصبة، تمرر القرارات الدولية على الضعفاء وتلوح بورقة قطع التمويل عندما تطول تلك القرارات طفلها المدلل «إسرائيل»، ويحسب له أنه أول من فعل المادة 99 من ميثاق المنظمة ليحذر فيها من تهديد عالمى تمثله حرب غزة، ولن يسقط من أرشيفات وسائل الإعلام مشاداته مع مندوب الاحتلال أمام الجميع لقناعته بما يفعله ويقوله.