قيم تعليمية في ثقافة احترام النظام العام (2)
ثقافة الوعي بفن الصَمْت
فرق بين الصمت والسكوت، فالصمت في ذاته أدب وحِكْمة ورِفعة، والسكوت في أصله خوف وذِلة، الصمت ترك الكلام من صاحبه القادر عليه مختارًا؛ رجاء تحصيل أجر أو دفع فتنة أو تجنب مفسدة، ف الصمت موقف إرادي محض، بخلاف السكوت فهو ترك الكلام من صاحبه القادر عليه عن خوف أو جُبن أو قلة حيلة..
الصمت للنفس تذكية وكمال، والسكوت نقصان للنفس وضلال لها وهوان، الصمت عبادة جوهرها العدل، وعنوانها الكف عن الكلام عند توفر سببه الذي يقتضيه، قال صلى الله عليه وسلم (.. ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فاليقل خيرًا أو ليصمت" ( أخرجه البخاري).
وعليه يمكن القول إنه من كَمُل عقله قَلّ كلامه، ومن كثر كلامه دل ذلك على نقصان عقله، وضيق أوفقه، وقلة علمه، وتفاهة رأيه.
لذا كان الصمت فَنا في كل معانيه ومبانيه، وكثيرًا ما يكون أبلغ دلالة من الكلام بل وأعمق معنً منه، ومن ثم، فقد وجب علينا جميعًا أن ندرك قيمة الصمت ومنافعه وأهميته ورفعته بين الناس، فالصمت قيمة من أجود القيم التي يجب علينا أن نتعلم فنها وننشر علمها بين الناس كافة، سيما في دائرة التعليم والتعلم، بين المعلمين والمتعلمين على حد سواء..
والصمت موقف من أعظم المواقف ومرتبة من أجل وأعلى المراتب، الصمت كلام يقرأ وموقف يفسر وأمر يفهم لكنه لا يسمع ولا يكتب، وفي هذا السياق يقول الجرجاني: "إنّ الإنسان أنطق ما يكون عندما لا ينطق".
ومن معانى الصمت والسكوت أن الصمت إمساك عن قول الباطل؛ لدفعه وتركه، والسكوت إمساك عن قول حق -رغم الحاجة إلى النطق به ورغم توفر السبب الذي يقتضيه-؛ إيثارًا لعدم المشاركة فيه، وتغطية وكتمانًا عليه، إضاعة له وإضعافَا منه وتغبيشًا عليه..
إنّ الصمت في الحق لا يُسمّى صمتًا إنّما يسمى سكوتًا على نحو المعاني اللغوية التي ذكرناها آنفًا كما هو موقف العالم الآن في أحداث غزة، والسكوت عند مسيس الحاجة إلى الكلام لا يسمى صمتا بل هو نوع عدوان وظلم وتعدٍ سلبي على الحق المسكوت عنه، بل وعلى صاحب الحق نفسه المخذول من غيره، وكما قال بعض السلف: (الساكت عن الحق شيطان أخرس).
الوعي بالقيم الأخلاقية
فالصامت من الناس هو الزاهد في الكف عن فضول الكلام الذي لا جدوى منه ولا فائدة فيه، وأما الساكت فهو الزاهد في ترك ما فيه الخير والنفع للناس، المتمسك بالذلة والهوان، والمعرض عن الحق، المتخلي عن العدل، المؤثر للظلم، والناشر للتعدي على الحقوق المعتبرة والعادي على أصحابها المنكسرة.
ومن تمام الفائدة كما ذكر أهل اللغة والبلاغة أن الصمت يتسم بالطول النسبي أي طول مدته، بخلاف السكوت فهو ليس كذلك فمن ضم شفتيه مثلا وقتا قليلا لا يسمى صامتا وإنما يسمى ساكتا، ولا يكون صامتا إلا إذا طالت مدة الكف عن الكلام..
وفي هذا السياق أقول: إن من جملة معاني الصمت أنه يأتي بمعنى الصوم، كما هو شأن ما جاء في قصة السيدة مريم -عليها السلام- في قوله تعالي: (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا) سورة مريم، آية(26)، فجاء الصوم هنا بمعنى التزام الصمت بالكف عن الكلام وعدم التحدث مع أحد.
وتأسيسًا على ما سبق أقول: إن من قبيل أداء المؤسسات التعليمية لرسالتها الأصيلة في نشر ثقافة الوعي بالقيم الأخلاقية والآداب الإنسانية الحرص الدؤوب على بيان فنّ الصمت تعريفًا به، وإرساءً لقواعده وتعرفًا على أصوله وتبصرةً بأحواله ودقائقه، وتوسيعًا لدائرة العلم به وتدريبًا عليه، وتحصيلًا لمعانيه وتفرقة بينه وبين ما يشتبه به..
وذلك تعظيمًا لشأن القيم الأخلاقية ونشرها ثقافة معتبرة في الأوساط التعليمية المختلفة وضروب المعرفة المتعددة، وإيضاحًا للمصطلحات الإيجابية، على نحو يعظِّم قيمتها، ويثري معانيها، ويبيِّن آثارها، ويجلِّي حقائقها، وينشر ثمارها بين المعنيين بالعملية التعليمية من معلمين ومتعلمين وغيرهم ممن هم في حكمهم..
فهذه المؤسسات هي الأمينة على تشكيل الوعي لدى المتعلمين من النشء والشباب، تربية وتعليمًا، تأديبًا وتحصينًا، معرفة وتثقيفًا، على نحو يحقق لهم مجامع الخير والنفع في دينهم ودنياهم، في بيوتهم وأوطانهم، وفي جميع أعمالهم وتصرفاتهم وسائر أحوالهم.