رئيس التحرير
عصام كامل

أبواب الشمس


فى روايته "رجال فى الشمس" اختصر الشاهد والشهيد غسان كنفانى المسألة كلها، فالرجال الذين عَبَروا الصحراء فى خزان ماتوا اختناقاً، لأنهم لم يدقوا جدران الخزان، ومثلما شحّ الأوكسجين فى ذلك الخزان شحّ أيضاً فى فضاء بلاد منكوبة، وكان ما كان. وإذا كان للشمس رجال، فإن لها أيضاً أبواباً بسعة الكون، لأنها لا تُغطّى بغربال، وحين تغرب عن بلاد تكون قد أشرقت على أخرى، وقرية باب الشمس الفلسطينية التى زاوجت بين الرمز والواقع شُيّدت قبل أيام من خيام، فالخيمة توأم اللاجئ فى كل زمان ومكان.


والعرب لم يكفّوا عن اللجوء والنزوح منذ تحولت الأوطان إلى ما يشبه المنافى.

حملت القرية اسم رواية معروفة تحولت إلى فيلم سينمائى لإلياس خوري، وهى أيضاً رواية شاهدة على هذه التغريبة المعاصرة، ولأن سلطات الاحتلال تطلق نيرانها على الواقع بكل ما فيه من بشر وحجر وشجر، فهى أيضاً تطلق النيران على التاريخ وعلى كل ما هو رمزى ومعنوى، لهذا زحفت بدباباتها وجراّفاتها إلى باب الشمس كى تطفئها، لكن من دون جدوى، إنها أشبه بذلك الإمبراطور المجنون الذى أطلق النار على القمر، لأنه أراد أن يقطفه من السماء كى يضعه فى عروة معطفه.

أبواب الشمس لا حدود لها، وإن أوصد واحد منها بغربال فإن الشمس تواصل سخريتها من السجان، وكان شاعر فلسطينى فُرض عليه منع التجول ليلاً يقول انهم يكرهون الشمس لهذا ربطوا قدمى إلى شُعاعها، فهى طليقة أبداً، وكذلك كل كائن يقترن بها.

أرادوا لشعب أن يتحول إلى وطاويط، لكنه اقترن بالشمس منذ سَحَرِها حتى غسقها، وأضاءت ساحة الجريمة حيث لم يعد هناك من يحلم بأن يضرب ويهرب وتكون جريمته كاملة وبلا شهود . وشأن كل لصوص التاريخ وقراصنته يضيق من يسطو بالضوء كى تستطيل يده فى العتمة، لكن العتمة أيضاً مضاءة فى تلك الجغرافيا الرسولية الشجية.

إنها مضاءة بعيون أطفال وقصائد شعراء ووصايا شهداء لا يكلون من السهر فى بيوتهم الصخرية.

كان منذ البدء رهاناً خاسراً وعبثياً ذلك الذى توقع من الشمس أن تتحالف معه ضد أطفال وأبرياء وأضرحة يرشح منها الدم والدمع معاً.

باب الشمس ليس اسم رواية فقط أو قرية فقط، إنه باب الحرية الذى كلما حاولوا تضييقه أو مُواربته اتسع، ليصبح أفقاً من كل الجهات، ومن أُخْرجوا بالقوة من باب الشمس سيعودون إليه من باب آخر، وستبقى المعادلة الخالدة هى مفتاح التاريخ والجغرافيا معاً.

إنها سلالة القتلة التى لا تنتهى وسلالة الضحايا التى لا تنتهى أيضاً، لكن الضحية الآن ليست خرساء فهى أبلغ من أى سلاح نووي، ولها فصاحة الحق والدم، ومن ماتوا عقاباً لهم على الصمت وعدم الدقّ على جدران الخزان، لهم أحفاد الآن يدقون كل جدران العالم وأبواب الشمس، لأنهم أبناء النهار وليسوا من وطاويط العتمة.

وإذا كانت القرية العربية فى فلسطين قد حملت اسم "باب الشمس" فإن المستوطنة التى تحاول افتراسها حملت إلى الأبد اسم باب الظلام.

نقلاً عن الخليج الإماراتية.
الجريدة الرسمية