قيم للبيع ...مين يشترى؟؟
بينما ينشغل الإعلام بالسياسة يبدو منفصلا عما يحدث في الشارع، فمصر تحتاج الآن وبشدة إلى ثورة قيم وسلوك. ففي غياب الإعلام الذي يناقش ويسلط الضوء على ممارسات الشارع المصري، استغلت الإعلانات هذه المساحة الفضفاضة التي لم يلق الإعلام عليها بأية نظرة, فظهرت الإعلانات وكأنها مسئولة عن تذكير الناس بالقيم الإجتماعية الإيجابية، مثل إعلان "مكملين" لكوكاولا وإعلان "كتر شيرك" لفودافون، وإعلان المصرية للاتصالات والذي يقول مطلعه: "دور جو ناسك أهرماتك واللي على السد". تركيز الإعلانات على قيمة "المشاركة"، يدل على أن كل شيء في مصر صار للبيع حتى القيم الاجتماعية. ولم تلجأ الإعلانات لذلك إلا بعد أن فقد الإعلام دوره المجاني، فأصبحت الإعلانات تبيع لك قيمة "المشاركة الاجتماعية".
وقيمة "المشاركة" ليست القيمة الوحيدة التي فقدها الناس في مصر، لقد فقدنا قيما أخرى معها، فالشارع يعيش في فوضى سلوكية وقيمة ضاع معها النظام والجمال. الأمثلة كثيرة عن غياب النظام والجمال، كفاك أن تقود سيارتك في شوارع القاهرة لتعرف حجم الفوضى التي تضرب أرجاء المحروسة. ولن أتحدث هنا عن المناطق العشوائية بل عن مدينة 6 أكتوبر، إحدى أرقى المدن الجديدة. فميدان "الحصري" ذلك الميدان الجميل هو صورة مصغرة للعشوائية السلوكية حيث التكاتك غير المرخصة في كل مكان، ونفير السيارات يصرخ ملوثاً كل شيء ملوث، وعربات السندويتشات وسيارات الميكروباص التي تم نقلها إلى موقف بعيد عن الميدان ولكنها لا تلبث أن تعود. ويكفيك أن تنظر إلى المطاعم الموجودة على جانب الميدان لتكتشف أن الناس لا ينشغلوا بقيمة الجمال بل استبدل الناس قيمة الجمال بالقبح- طالما هم يأكلون - وطرحوا جانبا قيمة النظافة فصارت الزبالة في كل مكان حول المطاعم.
عاجلا أو آجلا ستتجاوز مصر المحنة السياسية لتكتشف أنها أمام تحد أكبر يحتاج إلى عقود من الزمان حتى يتم استعادة الناس لهذه القيم الاجتماعية، فمصر تحت الاحتلال الانجليزي بلد نظيف ومنظم تحيط الحدائق ميادينه، بلد يلتزم فيه المواطنين بقواعد المرور، ومصر تحت حكم المصريين تعم بالفوض والزبالة والقبح. بل أن البعض لا يخجل من أن يقول: إننا بنحبها كده حتى بزبالتها، وكأنه يبرر القبح وينكر ضرورة أن تكون مصر جميلة نظيفة. فمبارك سن قوانين وكانت الشرطة فاعلة على الأرض، ومع ذلك كان الناس يتخلون عن قيمهم ويلتزمون أو يخشون فقط عقوبات الشرطة على الطريق، وعقوبات الحي، وعقوبات إدراة الكهرباء.
يتوهم البعض أن السياسة وحدها ستصلح ما أفسدته أنظمة الحكم السابقة. ولم يعد الإعلام يتعرض إلى "القبح" الذي يضرب مصر، بما يتعارض مع حقيقة أن الناس في مصر ثارت وتثور على الفساد وعلى كل ما هو سيئ. فلم أشاهد برنامجا واحدا عن القضايا اليومية الأكثر إلحاحا في الشارع المصري، ولم ينظر الإعلام إلى أن صور الممارسات اليومية في الشارع لا تقل أهمية عن صور ميادين التحرير ورابعة لأنها ترصد حالة الشارع.
ولم يستفد الإعلام شهر رمضان الكريم ليذّكر المصريين أن هناك ما لايقل أهمية عن السياسة, فهل رأيتم برنامج أو مسابقة عن أجمل شارع في مصر؟ هل رأيتم برامج تدعو للثورة على فساد القيم؟ ما زالت نظرة الإعلام إلى الحياة اليومية للمواطنين وإلى القيم الاجتماعية قاصرة. هانقول إيه: العتب على النظر.