بصحبة الموتى يعيشون ويلعبون.. أطفال المقابر: «لو اتهدت مش هنعرف نلعب ولا ندرس».. وباحثون: العيش وسط القبور يؤثر على الصحة النفسية والعصبية (فيديو وصور)
أذا ما مررت من هذا المستنقع فتلك ليست بالنهاية في الدغل أفعي وفي السرداب عقرب ،الورد سام والهواء ملوث وما بين عينيك ضفضدع.. ماذا لو وضعوك في مقبرة وأخبروك حتي قبل أن تجيد الكلام أن تلك مساحتك من العيش ولدت هنا وستنضج هنأ ستكبر هنا وسوف تتزوج هنأ وبالطبع ستموت هنا ، ماذا لو رأيت الحياة من القفا من جوانبها الأشد بؤسا " الموت" وطرحوك أرضاً مثل كيس بطاطا ورسموا خطوط عرضك بالطول وافهموك أن تلك هي الحياة وعليك تقبلها وهذا هو الواقع وعليك مجاراتة وتلك هي الأقدار وعليك أن تؤمن بها.. هذا ما قاله روديارد كلييج في «الرجال المكسورون».
منطقة الإمام الشافعي إسم يُغني عن طيب سرد وأسهاب مديح أحد أعراق مقابرنا الوطنية فخراً وغرابة في نفس الوقت حيث وعلي مساحة تقدر ب4000 كيلو متر من العيش عاش الموتي والاحياء معاً نِعم بموتهم وبقي الأحياء فوقهم واتخذوا من مدافنهم ماؤي لهم تزاوجوا فتناسلوا كبروا فازدهروا وتحت كنف التساهل العذب و الذي اشاعتة الفوضي العامة وعبر تيار متدفق ومتشابك من الدم أورث القدماء منهم لأبنائهم أساليب العيش مع الأموات فباتوا يعرفون منذ هاتيك لحظة بسكان المقابر أما أطفال الأبناء فباتوا يعرفون بالاسم الذي يذكرناً دوماً باشرس نكباتنا الإجتماعية تصاعداّ وأكثر أزماتنا الأخلاقية سوء سمعة "أطفال المقابر"" في جولة ميدانية وعبر توثيق مصور بداخل مقابر الإمام الشافعي التقت"فيتو " عدداً من أطفال المقابر لمعرفة الجانب الخفي من حياتهم أحلامهم ومعاناتهم وطريقة عيشهم وسط الموتي.
حياة أطفال المقابر
العيش مع الأموات ليس بالأمر اليسير فعله، فكل شيء كئيب هناك وكل من حولك يذكرك بمصيرك المحتوم "الموت" صمت مهيب يطبق علي كل جنبات الحياة هناك فيضيف إلي الكآبة إحساسا خانقاً بالوحدة والازدراء للنفس مع القليل من عجز الإرادة، ووسط هذا الجو الجنائزي شديد القداسة يعيش أطفال لا تزيد أعمارهم على ال8 -12سنة ولكن دون مشيئة منهم هنا كما ولد آباؤهم دون نذر مسبق من قبل، الغالبية العظمى منهم يدرسون في مدارس السيدة عائشة أو الجمعيات الخيرية المجاورة، والتي تقدم للأهالي تعليما مجانيا للأطفال حتي المرحلة الثانية الابتدائية ، ولكن في العادة تتوقف مسيرتهم الدراسية عن الصف الابتدائي ولا يسمح الدخل المادي للأسر هناك بتعليم أبنائهم ومن سمحت له الظروف بذلك فقد اكتفي بالتعليم الإعدادي لأبنائه ثم رفع يده عنهم رعاية وإنفاقا ً "أهلنا أصلا مش بيفكروا إحنا نايمين في القرافة ولا "لا" عشان يفكروا يعلمونا " يقول ياسر 15عاماً ساخراً.
- يعد مجتمع سكان المقابر في الأساس نسيجا متنوعا ومتنافرا في نفس الوقت، حيث يضم في طياته ثقافات ولهجات وعادات مختلفة ، نظرًا لأنهم ليسوا من أصل وأحد ولا يربطهم ببعضهم أي صلة قبلية أو اجتماعية، بل التقوا نتيجة ظروف اقتصادية واجتماعية وتاريخية وسياسية مختلفة، لذلك تنتشر العصبية والقبلية هناك بين الأطفال، وربما ورثوا هذا التنافر في عروقهم بطريقة تثير في النفس نوبة هلع ،ولذلك ينقسم أطفال المقابر فيما بينهم إلي جماعات وعصابات صغيرة، ولكل جماعة منهم زعيمهم الخاص الذي لا يأتمرون إلا بأمره، وهو من يقودهم في أي عراك ويفض المنازعات فيما بينهم حتي ولو بالقوة، حفاظاً على تماسك جماعته ويبدوا أن لكل تشكيل منهم منطقة نفوذ خاصة به اقتطعها لنفسه عنوة فتحولت شوارع الإمام الشافعي بكل ما حوت من أزقة ودروب وحوار عصت علي الأزمنة والناس تقسيمها إلي مربعات جغرافية وشرائط حدودية بفضل هؤلا الصغار، عرفنا ذلك بعد أن طلبت من أحد الأطفال التصوير معه تردد في أول الأمر ثم همس له زميله و الذي بجواره" الواد سيف ظاظا اللي تبع ياسر كرستيانو سجل معاه " وعلي الفور وافق علي التسجيل وهو يصرخ مرحاً" هما هيكونوا أرجل مننا يعني صور يا اسطى" في الحقيقة الأمر لا ينطوي علي أي خطورة إجرامية من تلك التكتلات أو الِشلل كل ما هنالك أن أطفالنا أرادوا أن يمارسوا ألعاب الكبار ، وربما لن يأخذوا هذه اللعبة علي محمل الجد" إحنا لينا منطقتنا اللي بنلعب فيها كورة وبنشتغل فيها ومينفعش أي حد غريب يجي ياخد رزقنا ويشتغل بدالنا أو يبص علي بنات المنطقة بتاعتنا" يقول محمد محاولا إزالة خيوط عنكبوت سوء الفهم من خلايا عقلي.
تغيب كل وسائل الرعاية الحكومية بالنسبة للأطفال هناك لا مستشفيات لا عيادات ما عدا مشفي قديم يقع في الطرف الجنوبي من المقابر، ويمكن القول إنه خارج الخدمة وأفرغ ما في داخله إلا من مُمرض عجوز يحمل دفتراً لا جدوي من تدوين فية أي شيء ،لا دورات مياه عمومية ولا حتي خاصة إلا دورة المياه المشتركة بداخل كل مدفن يسكنه هؤلاء الأطفال لا وسائل ترفيه عمومية إلا الملعب القديم والذي يقع في حوش الباشا، والمسمي بملعب " الإمام" وقد أزيل مع أولى عمليات الهدم، التي طالت المقابر فأصبحت الشوارع الترابية المختلطة بملح بارود الموتي والأرصفة الأسفلتية الساخنة هي الملاذ الوحيد للعب كرة القدم في منطقة يصر صغارها علي اللعب حفاة الأقدام "هدوا الملعب إلي كان الحاجة الوحيدة اللي بتفرحنا،حتي دي استكتروها علينا" يقول أحد الأطفال وقد نسيت أسمه وسط زحام الأسماء التي عرفتها في ذلك اليوم.
لعل كرة القدم هي الهواية الوحيدة التى يمارسها أطفال مقابر الإمام الشافعي بجانب لعبة التخفي بين القبور، وهواية تسلق جدران المقابر علي ارتفاع يصيب الناظرين لأعلي بالدوار، ويرجع ذلك ربما لأنها ألعاب تشاركية ومجانية في نفس الوقت، أي أنها لا تحتاج لأي مجهود فردي أو مادي، وهي أشياء لن يقدر عليها هؤلاء الأطفال.
في هذا المجتمع لا يلقي الأطفال هناك الاحترام اللائق من قبل آبائهم وذويهم، ولا حتي ممن يعملون معهم يريني خالد ما وراء شحمة أذنيه "اي ده" قال ضاحكاً " أبويا طفا في قفايا السجارة عشان سبت الأسطي اللي كنت شغال وراه ولما قولته دا شتمني بامي قلي وأي يعني مش بيديك ميت جنيه"يخبرني سعد والملقب بصاصا نظراً لأنه يجيد الغناء: إنه أكمل الآن الأسبوع الثاني وهو ينام خارج مدفن أسرته مستلقياً مرة داخل إحدي المقابر ومرة يضطر للمبيت عند أحد أصدقائه، ولولا صدقات الزائرين لمات جوعاً، وحتي الآن لم يفكر أبوه بالبحث عنه ،وعند سؤاله عما إذا كانت تنتابه أي مشاعر من الخوف وهو ينام في المقابر أجاب" دول أحسن ناس الميتين علي الأقل مش بياذوا حد ولا يضربوه".
ماذا يعمل أطفال المقابر
الأغلبية منهم يعملون وبعضهم يجمع بين الدراسة والعمل في آن واحد، ويحظي القطاع الخدمي الأهلي بمقابر الإمام بشهرة واسعة بالنسبة لعمالة الأطفال كالمقاهي والغُرز والمطاعم وعربات الأطعمة سريعة التجهيز وصالونات الحلاقة ومغاسل السيارات ومن أمتلك القدر القليل من الذكاء عمل "مرشد" يدل الغرباء الوافدين علي زيارة موتاهم أو ذويهم مقابل 10 جنيهات، بل منهم من تعلم مهنة دفن الموتي، وأصبح يجيد ذلك بالفعل كمصطفي الذي يقول" قعدت تلات شهور مع عم حنفي التربي لحد ما أتعلمت منه " فغرت فاهي وحركت خلايا عقلي أربع درجات علي اليسار لأتمتم بصوت لعله كان أعلي من تقديري في حنجرتي بجمرة السر" طفل يدفن موتي يا للمصيبة" فرد مصطفي ممسكاً حقيبتي " دي بواسطة.. ده أمي قعدت تتحايل عليه أسبوعين لحد ما وافق"
وعند سؤاله عما إذ كان يشعر بأي رهبة إذا دفن ميتا أو حتي رؤيتة أجاب" أخاف من إيه ما إحنا عايشين معاهم أهه".
بعد أن شرعِت الدولة في هدم المقابر التاريخية خاصةً مقابر الإمام فيما أسمته هي إعادة الهيكلة لتلك المدن ومن ثم تطويرها وجد هؤلاء الأطفال فرصة للعمل المستدام، حتي ولو كان علي حساب مراقدهم ومدافنهم التي تأويهم فشرعوا بالعمل في رفع الحجارة من أمام الجرافات أو حمل شهود القبور والمقتنيات التاريخية ووضعها في الأماكن المخصصة تحت إشراف حكومي بالتأكيد، أو ترقيم المقابر بالأرقام والآحرف لمن يجيد الكتابة منهم " كنا زعلانين أكيد وهما بيهدوها بس هنعمل إيه أهلنا اللي كانوا بيقولنا نشتغل مع اللي بيهدوا" يقول أحد الأطفال مطلقاً زفرة أنين وعند سؤاله عن الأجر الذي كان يتقاضاه أجاب " كان المقاول بيدينا في اليوم 80 جنيها" .
السواد الأعظم من هؤلاء الأطفال يعمل في ظروف عمل غير آمنة وسيئة، وتفوق إلي حد كبير بلوغهم البيولوجي، وقوتهم العضلية وادراكهم الذهني، خاصةً أن أغلب هذه الأعمال والتي يعملون بها تتطلب حرفية وتقنية لها علاقة بالكفاءة أكثر من السرعة كورش الحدادة والنجارة ومغاسل السيارات وأي طرفة عين فيها تؤدي إلي إصابة قد تصل إلي إعاقة لمن في سنهم.
لا يتذكر أحدهم أنه تعرض إلي إصابة من مثل تلك الأنواع بل يرددون دوماً أنهم أذكي من الموت إذا ما حاول تشمُم طرفي بناطيلهم " إحنا اللي عبينا الهواء في ازايز" ولكنهم وبحسرة يتذكرون بعض الكلمات التي تلقوها ممن يعملون معهم ، كلمات يقولون إنها اخترقت جلودهم فأحرقتها وطحنت عظامهم فرمدتها وطعنتهم في موضع طمأنينة كانوا بمغفل عنه " المعلم اللي كنت شغال وراه في القهوة شتمني ولما رديت عليه ضربني ورمالي الخمسين جنيه علي الأرض اللي كانت يوميتي" يقول أحد الأطفال
بينما يرد آخر بعدما تأكد إني لا أحمل كاميرا دقيقة ،لتسجيل ما يقول في أحد أزرار قميصي" وأنا مرة كنت شغال مع صنايعي رخام......" فلينجني الرب ياله من كلام .
في الحقيقة يمكننا القول أنه نظرا لحالة التفكك الاجتماعي والأخلاقي وانعدام الأمان هناك يجعل بعض الأطفال يتعرضون لتجاوزات أخلاقية وجنسية أيضا هم يقولون ذلك ولكن نحن لا نستطيع كتابة الكلمات أحادية المعني ما لم تحمل في طيها توثيقاً دلاليا.
هتاف الصامتين
العيش مع الموتي يسلبك كل مقومات الحياة ويهبك كل مسببات الموت بكل ما تحمله الجُمل من معاني الفردانية، في وسط الموتي أنت ميت حتي ولو كنت تتنفس من بطنك لا من أنفك، ولأن الموتي لا يأكلون ولا يشربون ولا يتقلبون في نومهم ولا يحلمون في رقادهم فإن قلة قليلة من أطفال المقابر هربت بعيدا عن عالم الموتي بخيالها، ولأنه في الجحيم لن يتسني لك إلا الحلم بالنعيم فإن شياطين المقابر الصغار حلمنا أنهم ملائكة كبار.
يخبرني محمد 11عاما، أن حلمه الوحيد هو أن يرحل من هنا حيث تأفف من حياة الموتي تلك، والتي جعلته يشعر وكأنه ميت مثلهم" عايز امشي من هنا نفسي أعيش مع البني آدمين اللي بجد"
مستطردا" نفسي أبقي زي الكابتن محمد صلاح وألف العالم كله زيه"
بينما يقول مصعب 14عاماً: "عايز أبقي ظابط "
وببنما يؤكد محمود أنه يتلقي الآن تدريباً مكثفاً في مركز حراسة المرمي، لأنه يود ان يكون حارس مرمي، يعلم جيداً أن حلمه يتطلب الكثير من التضحية بل و الجرأة، لذلك يقول " مستعد أعمل اي حاجة بس أبقي معروف الناس تعرفني "ربما أغلب الأطفال الذين التقت بهم" فيتو "أجمعوا جميعاً أن الخروج من المقابر هو أول خطوة ممكن أن يسلكها الإنسان بحثاً عن الحياة، لذلك ستجد أنهم متفقين جميعا دون تنسيق فيما بينهم علي أنهم يودون الهرب من مدينة الصمت والموت التي يعيشون بداخلها ، الجميع يحكي عن حلمه وقبل أن ينهيه أو حتي قبل أن يبدأ في سرده يقول" نفسي أعيش بره عن هنا "
تروي لنا رغدة 16عاماّ أنها لا تمتلك حلماً معيناً يمكنها تحقيقه بل إنها تفاجأت أن يكون لها حلم في حياتها وصمتت بضع ثوان طويلة عند سؤالها عما إذ كان لها حلم تسعي لتحقيقه"مش عارفة أول مرة حد يسألني عايزة تبقي إيه بصراحة".
مستدركة" بس نفسي اتجوز بره عن هنا"
تتزوج الفتيات هناك في سن صغيرة جدًا قد يبلغ في معظم الأوقات الـ15 إلى 16 عاما، وهذا لأمرين أولهما درء الشبهات، واتقاء مواطن الزلل وقطع الألسنة، التي قد تنال من سمعة هذه الفتاة وشرفها، وثانيا أن الدخل الثابت للأسر هناك قد يبدو معدومًا، فيحاول الآباء تخفيف عبء الإنفاق علي أنفسهم بتزويج بناتهم بحكم أن خروجها من بيت أبيها إلي بيت زوجها يعني رفع يده عن مأكلها ومشربها وملبسها.
تقول رغدة إن أهلها اكتفوا بمسيرتها التعليمية عند نقطة الشهادة الابتدائية، وبعد ذلك ألزموها العمل في أحد أكشاك البقالة التي فتحوها بداخل المدفن الذي يأويهم: " أهلي قالولي كفاية إني عرفت أكتب أسمي عشان أمضي علي عقد الجواز"
يعمل أشرف 15عاماً في أحد صالونات الحلاقة المنتشرة بين المدافن يتقاضي بحسب قولة 50 جنيها في اليوم، يبدأ عمله من ال،3عصراً وينتهي ال2 فجراً، يقول دون حياء إنه مجبر علي هذا العمل و لا يرغب في تعلم أي شيء منه لأجل زوجة أبيه التي تجبره علي العمل تحت تهديد عصا المكنسة، وتعتبر عمله اليومي نظير إقامته بداخل المدفن " مش بعمل أي حاجة في الصالون بغسل العدة من وراء الأسطى...مش عايز أتعلم حاجة من الشغلانة دي ،نفسي أبقي لعيب كورة"
يعتبر أشرف أن الـ50 جنيها والتي يطويها في يد زوجة أبيه كل يوم نظير الإقامة في المدفن وأشياء أخري " مش بترضي تخليني ألعب كورة مع صحابي لو مدتهاش اليومية واليوم اللي مش بشتغل فيه مش هتخليني أنام في المدفن" وعن أبيه وسط كل هذا أجاب" أبويا شغال صنايعي سيراميك وببسافر يقعد بالشهور مش بيجي إلا كل فين وفين".
عاصفة ترابية شديدة محملة بالكثير من الغبار الملوث بملح بارود الموتي الذي يتطاير من داخل المدافن العتيقة ، لم تمنعه من إلقاء جمرة النار الملتهبة، والذي كان يشتد شرارها علي وجهه بعدما حاول جاهداً تغطية كوب الشاي الذي يحمله في يده الأخري بالجانب الأيمن من وجهة كي لا يلوثها الغبار يقول إن أسمه يوسف وأنه يعمل في أحد المقاهي نظير 60 جنيها باليوم التقيت به بداخل أحد حارات المقابر أعترف كنت تائها وغارقاً وسط فوضي القبور التي تشابه بعضها بعضاً حتي أن النزول من اليمين يشبه الصعود من اليسار نظراً للتشابه الشديد بين الأماكن هنآك " لو حد شافك وأنت بتصور هيزعلك" قال ناصحاً ثم أردف " أنا خايف عليك وبراحتك" أخبرته إني أود الخروج إلي الطريق الرئيسي ومن ثم يمكنني الإبحار وحدي أجاب" تعالى معايا نودي الطلب ده للزبون وأطلعك علي ناصية الشارع" انتهزت الفرصة ودار هذا الحديث بيني وبينه
أنت بتشتغل إيه
-صبي قهوجي
بتاخد كام
-60جنيه... أوعي بتكون بتصور
لا تقلق الهاتف في جيبي والحقيبة علي ظهري
بتدرس
-كنت
لي
-ليه إيه
ليه كنت
-مش حابب المدرسة
يعني حابب الشغلانة دي
-لا
نفسك في إيه ، يبدوأ السؤال اعتياديا للغاية ولا يحمل أي إثارة لذهن المتلقي لذلك غيرته متلاعباً ببعض أدوات الجر ليكون السؤال أكثر راديكالية
مش عايز تخرج من هنا
- "ياريت" قال ساخراً
يحلم أشرف عندما يكمل ال20 عاماً أن يغادر مقابر الإمام، لا يضع أي وجهة معلنة للرحيل، ولكن في نظره أن أي مكان هو أفضل من تلك المقابر "أي حتة أهم حاجة أعيش... أعيش".
هدم المقابر في عيون الأطفال
جرت في الآونة الأخيرة إزالة عدد كبير من المقابر التاريخية والتي تجاوز عمر بعضها أكثر من ألف عام ، وبحسب ما أوردته الحكومة فإن هذا التحرك هو البداية لنقل أكثر من 2700 مقبرة لأماكن جديدة في مدينة 15 مايو(علي مسافة 35 كيلو متر من القاهرة) وذلك لأجل تنفيذ مشاريع تستهدف تطوير تلك المنطقة ، هذا القرار ربما نزل كالصاعقة علي سكان المقابر الذين وجدوا أنفسهم أمام مصير مجهول وغير معلن، إذا ما تم فعلاً هدم المقابر التي يقطنونها، ربما تشارك الأطفال نفس مصير الكبار، ولكن من جانب أكثر رومانتيكية وبالتالي أقل إلزامية فهدم المقابر سوف يمنعهم من ممارسة كرة القدم وعدم اللعب بين المقابر في شكل جماعات، كما اعتادواً في الأيام الخوالي" هما استكتروا علينا الملعب اللي كان بيلمنا فيهدوه" يقول أحد الأطفال ثم يردف بكلمات تبدو متقطعة بعض الشيء" إحنا كلنا اتربينا هنأ وصاحبنا بعض هنا لو اتهدت المقابر مش هنشوف بعض تاني".
كارثة هدم المقابر من وجهة نظرهم لن تقتصر علي عدم ممارستهم كرة القدم أو تشتتهم جغرافياً فقط، يضع حسن 15عاماً لبنة الأساس في أكثر القضايا الأخلاقية تعففاً وإثارة للجدل، فيتحدث كما الكبار قائلا" وأصلا ده حرام إننا نهين الميتين وندوس علي عضمهم " وعن أهمية المقابر من الناحية التاريخية يقول حسن" أعرف زي ما أهلنا حكولنا أن الناس دي كانوا باشوات كبيرة وعملوا حاجات كتير حلوة للبلد".
بينما ينظر النرويجي 16عاماً وهذا ليس أسمه الحقيقي للموضوع نظرة جيورومانتيكية (تأثر الجغرافيا بالعاطفة) فيقول"إحنا اتعودنا علي المكان ده لأننا اتربينا فيه فلما يهدوه ويودونا مكان أحسن منه برضه هنبقي زعلانين لأننا مش هنعرف نزوره ونفتكر أيامنا هنا"
يري حمزة أن هدم المقابر سيمنعه من الاستمرار في استكمال مسيرته الدراسية، فكل المدارس من وجهة نظره هي مدرسة الإمام الشافعي الابتدائية، وإذا هدمت فكل المدارس من وجهة نظره قد تم هدمها " مش هنعرف ندرس ولا نتعلم تاني لو هدوا المدرسة بتاعتنا".
رماد الموتي
مادة جيرية تشبه الرماد البركاني تُنتج بعد تحلل عظام الموتي بوقت طويل قد يمتد لسنوات لا يمكن حصرها وتحتوي علي بعض الأملاح العضوية شديدة التأثير علي البشر الذين يتعاملون مع تلك المادة أو القريبين من أماكن تواجدها كالمقابر الشرعية أو محارق الموتي، وفي هذا الجانب يجيبنا دكتور أشرف المسيري، أستاذ الطب النفسى بجامعة أسيوط قائلا : أولا أعلم أن هناك أناسا يسكنون المقابر ولكن لا أتصور أن هناك بشرا قد يتمكنون من أن يتخذوا من مأوي الموتي مسكناً لهم، لذا وجب التنويه أن العيش في المقابر له جوانب سلبية تؤثر علي الصحة النفسية والذهنية للأطفال تحديداً وأهمها الـ "remains" أو رماد الموتي.
وأضاف أستاذ الطب النفسى في تصريح لـ " فيتو" " خطورة هذه المادة أنها تؤثر علي القدرات الذهنية والعقلية للأطفال، وتقلل من قدرة مدركات الاستقبال لديهم لأنها تحتوي علي مواد كيميائية وحمضية خطيرة للغاية"
واستطرد قائلا : هي مادة خفيفة للغاية وتشبه الجير الحجري تتطاير في الهواء وتمتزج مع حبيبات الغبار المستنشقة وهنا مكمن الخطورة ، لأنها تؤثر علي الجهاز التنفسي أيضا، بإمكانك التواصل مع أحد أساتذة الأمراض الصدرية ليفيدك في هذا الجانب أكثر"
الدكتور فريد فايز أستاذ الأمراض الصدرية والحساسية جامعة عين شمس يقول من جانبه: إنه فعلاً وباعتبارة دكتورا جامعيا وطبيبا أيضا يستقبل في عيادته شهرياً عشرات الحالات التي تعاني ضيقا في التنفس أو صعوبة في الاستنشاق أو حتي فقد حاسة الشم والتمييز بين الروائح وأغلبهم يكونون إما " تربية" أو عملوا في مجال تكريم الموتي لمدة طويلة ،أو يقطنون أحد الأماكن القريبة من المقابر الجماعية.
وأضاف لـ " فيتو" غبار رماد الموتي مادة شديدة الحساسية ويجب التعامل معها وفق ذلك، خاصة إذا كان الحديث عن أطفال يسكنون المقابر ويتعاملون مع تلك المادة المترمدة".
اكتئاب وعدوانية وانطوائية
العيش في المقابر ليس بتلك السهولة اللفظية التي يُجري التلفظ بها، بل يمكن أن يكون له تبعات صحية ونفسية علي قاطني تلك الأماكن، نظراً لأن فطرة الإنسان تُطبع علي حساب مساحة العيش التي نشأ فيها، الأمر لا ينطوي علي تأثير بيئي أكثر منه نفسي وذهني.. في هذا الجانب يفيدنا أستاذ الطب النفسى بجامعة الأزهر عبدالعزيز الهواري : أولا المقابر هي أماكن مخصصة للموتي والجميع يعرف ذلك، وبالتالي فإن تصميماتها العمرانية والهندسية لا تتبع لأي حال مظهراً من مظاهر الحياة، فمن غير المعقول أن يقطن إنسان عاقل مثل تلك الأماكن.
وأضاف لـ " فيتو": المقابر بداخلها روائح تنبعث نتيجة تحلل أجساد الموتي، وبطبيعة الحال هذه الروائح ضارة بصحة الإنسان، لذلك فإن جميع الدول تراعي إنشاء المقابر في الأماكن البعيدة جغرافياً عن الحيز العمراني"مستطرداً" الذين يعيشون بداخل المقابر يشاركون الموتي صمتهم وحياتهم الجامدة، فلا نمو ولا تطور ولا نضج ولا طموح وبالتالي لا حلم، وهذه أمور تؤثر علي الصحة النفسية وتؤخر علامات النضج بالنسبة للأطفال تحديداً، حيث يعيشون مناخا كئيبا ويفتقر إلي التفاعل الحيوي المطلوب في الحياة"
ومازلنا مع أستاذ الطب النفسى الذي أردف: إن الجو في المقابر مُفعم باللطميات وقصائد الرثاء والتعزية ويخيم عليه الحزن والتشاؤم وهذه أمور تؤدي طردياً إلي الاكتئاب والعدوانية شديدة الترقي والانطواء والانعزالية الشديدتين، هذا بالنسبة للكبار فما بالنا بالأطفال الذين إذا نظرنا إلي قشورهم الداخلية سنجد أنها محطمة ومهزومة مهما حاولوا إخفاء ذلك".
مشوهون نفسياً واجتماعياً
الإحساس بالدونية الافتقاد إلي أدني مظاهر الثقة بالنفس والنبذ المجتمعي الذي يلاحقك علي الدوام والنظر إليك بارتياب مصحوب بالقلق فقط، لأن الصدفة وحدها جعلتك تسكن مقبرة.. هذه مشاعر يعيشها سكان المقابر خاصة الأطفال منهم والتي تلاحقهم أينما ذهبوا، تجيبنا أستاذة علم الاجتماع السكاني بجامعة الزقازيق ناهد فهمي حسن: نتفق أولا أن نرسم الخطوط كما تم رؤيتها، سكان القبور يفتقدون إلي أبسط الأمور الحياتية من مظاهر العيش وتنتشر بينهم الأمراض، والتي تم تناقلها عبر أجيال متواترة، بالإضافة إلي انتشار بعض الظواهر الإجرامية والانحرافات الأخلاقية فيما بينهم، وهو ما ينعكس طردياً علي طريقة العلاقات الترابطية بينهم وبين بعض، حيث تدب الخلافات وتنتشر المناوشات فيما بينهم كل ذلك يؤثر سلبياً بالطبع علي شرفهم الإجتماعي أمام مرآة المجتمع .
وأضافت أستاذة الاجتماع لـ " فيتو" في المقام الأول الأطفال هم ضحايا مجتمعية لهذا الإسقاط التاريخي المتعدد غير المحسوب الصدف، فبالتالي كل ذلك يؤثر سلباً علي نفسية الطفل وتراجع ثقته في نفسه بل وتراجع قدراته الذهنية والعقلية نظراً لحالة التشكك التي تتبعه دوماً كونه طفلا ولِد في مقبرة فبالتالي هو إما لص أو تاجر مخدرات أو منحرف اجتماعياً"
وقالت " هذه الأمور تجعل الأطفال يصابون في موضع طمأنينة وهي ثقتهم وتراجع الطموح لديهم وعدم الإقدام نظراً لأن ما يصحبهم هو شعور الشك ، كونهم منبوذين إنسانياً ومشوهين اجتماعياً".