إرث الخديوية ينهار تحت ضغط الحداثة.. غلق حديقة الأزبكية لتطويرها.. ويرجع تاريخها إلى سيف الدين بن أزبك (صور)
علي الرغم من أسوارها المرتفعة والتي تعالت على مر العصور حتى وصلت لأن يستظل بها الناس من قيظ أيلول إلا أن رائحة الغبار تفوح من كل جوانبها، جرافات تعمل بدأب لإزالة أكوام من التراب، عشرات القاطرات من ذوات النقل السريع يلقين حمولتهن بالداخل وينطلقن مسرعين لجلب حمولات أخرى، نجارون وحدادوون وبناؤون وفنيون مهندسون ومشرفون، ثمة مشروع عملاق يجري التجهيز له بالداخل.
ولأجل ذلك أغُلق المكان، ولكن برغم هذا التكتم الشديد المصحوب بالحذر تداول رواد مواقع التواصل الإجتماعي صورا ً لمنطقة تبدوا أشبة بصحراء لاتينية تجري بها أعمال هدم وبناء وقد نسبها البعض إلى حديقة الأزبكية كان وقع الخبر صادماٌ للبعض بل إن منهم من حاول مقارنة تلك الصورة الموحشة بأقدم ذكرى لدية عن حديقة الأزبكية ولكن خلايا الإدراك في العقل لم تستجب، ولكن في ظل السياسة المنتهجة في الأشهر الأخيرة تجاة الأشجار خاصة في محيط القاهرة ومدنها آمن البعض بتلك الفرضية واعتبروا حديقة الأزبكية الضحية القادمة لمشروع التطوير العملاق.. " فيتو" قامت بمغامرة ميدانية بداخل حديقة الأزبكية برغم التشديد الأمني على مداخلها لتستطلع أمر ما أشيع في الآونة الأخيرة عن عمليات إزالة لعدد كبير من الأشجار خاصة التاريخية منها عن قرب.
أكبر من مجرد حديقة
لا تُذكر الأزبكية وحديقتها بغير ذكر سيف الدين ابن أزبك ولا يُذكر هو في كتب التاريخ بدون ذكر تأسيسه الأزبكية، يخبرنا ابن أياس في كتابه " بدائع الزهور في وقائع الدهور" أن هذه المنطقة كانت أشبة بساحة خراب تنتشر بها "الكيمان" وهو مكان إلقاء القمامة ويسيح فيها الجراد كل "مساح" ويقصد موسم انتشار الجراد، ويعط فيها الخبيث ويدج اللبيس ويزج فيها كل زجيح ويقصد أنها كانت مكانًا للأعمال المنافية للأخلاق، وكان الماء يصلها كل مفيض فيشكل بركًا في بطونها فكانت موطنًا للدود والفئران والغربان ولم يكن بها من أبنية سوى ضريحان وهما"سيدي الوزير" وسيدي عنتر".
وقد كان أزبك يسكن قرابة كل ذلك الخراب فما كان يمر ترحاله من جانبها حتى يوقفه ويهبط من على حصانه وينظر مشفقًا ثم يستقل المسير "ويضيف ابن أياس، أن ابن أزبك اقترح على السلطان قايتباي أن يكلفه بإعمار تلك المنطقة فما كان من السلطان إلا أن وافقه مشيئته فبدا ابن ازبك في جرف الكيمان وتمهيد الأرض وتقطير البِرك وشق قناة من الخليج الناصري الواقع على النيل (شقة إبن قلاون) ليجري الماء إلى بركة الأزبكية ثم أقام على هذه البركة "رواضًا" أو متنزها وهو ما سيعرف لاحقًا بحديقة الأزبكية وأغناه بأشجار وزهور ومد الجسور وشد الطرق وأقام الطواحين وكافة المنشآت الخدمية وشجع الناس على الوفود إلى تلك المنطقة واقتطانها ثم انتقل هو إليها فسكنها فتبعه جميع إلانابكة فبات الحي منذ تلك اللحظة يعرف بحي الأزبكية والذي أصبح أحد أرقي أحياء القاهرة لثلاثة قرون متتابعة، وتمتع بنصف ساعة من الشهرة العالمية عندما تم ذكره في الفيلم الوثائقي الأمريكي Bygone cities والذي كان يوثق أشهر الأحياء التاريخية أصالة.
باريل ديديشان
عندما التفت الخديو إسماعيل إلى مشروع القاهرة الخديوية كان يعي بكل تأكيد أنه مشروع عمراني عملاق يستهدف نقل كافة مظاهر الجوانب الجمالية في أوروبا إلى القاهرة ولذلك عمل على قدم وساق لأخذ النمط الأوروبي الأكثر صرخة في ذلك التوقيت وهو المتنزهات العامة والتي كانت تنتشر بكثرة في العواصم الأوروبية بل إن ربما إسماعيل نفسه اعتبرها مظهرًا من مظاهر الرقي الاجتماعي والذي كان يميز أوروبا في ذلك الوقت فأولاها الاهتمام وقد كانت بركة الأزبكية المتبقية من روضة ابن أزبك ضمن هذه الاهتمامات فقام الخديو بردم تلك البركة وطلب على عجل مهندس فرنسي حسِن السمعة يدعي "باريل ديديشان" مصمم حدائق "التوليري" غرب العاصمة باريس وأعهده مهمة تصميم حديقة تشبة تلك الحدائق آلتي صممها فما كان من الأخير إلا أن قام باقتطاع الجزء الجنوبي من المنطقة التي تقع الآن غرب منطقة الأزبكية وضمها إلي الحيز الحدودي للبركة لتبدو الحديقة أعظم من الناحية الجغرافية وأحاطها بأسوار علي الطراز الطروادي وجلب بداخلها مجموعة من الأشجار والنباتات المعمرة كشجرة "البانيان" أو التين البنغالي وهي الشجرة الأقرب لقلب الخديو إسماعيل ومجموعة أخرى ضمت أشجار " الماهايو، الساندو، الميليزان" وبحسب كتابة " المنشآت المعمارية في عصر الخديوي إسماعيل " لـ أحمد محمد علي الصادر عن مكتبة مدبولي، فإن المساحة الحقيقية لحديقة الأزبكية هي عشرون فدانًا، وقد تضاءلت تلك المساحة تحت الزحف العمراني والمشاريع الوطنية والتي كان أهمها دار الأوبرا وسنترال العتبة حتى وصلت إلى الـ10 أفدنة وهي المساحة التي تعرف بها الآن.
كافيتريات ومطاعم
وبحسب آخر زيارة أتذكرها لحديقة الأزبكية منذ عامين تقريبًا وقد كنت من هواة الدخول من الباب الثالث نظرا لقربه الشديد من محطة مترو العتبة فإن الولوج من ذلك الباب إلي داخل الحديقة كان يستوجب عليك أن تخفض رأسك طول شبرين على الأقل لتتجنب إصابة في العين أو الرأس من أحد أغصان الأشجار المطلة من الباب، الآن بات هذا المكان أشبة بمدرج طيران حربي بحثت عن أثر لوجه تلك الذكرى وكلما حاولت استجماعها في خيوط عقلي التقيت بوجه الرمال وأطنان من الحديد والخشب والكثير من إلاسمنت شديد الصلابة، طلبت إذن من الدخول فرفضوا"في أعمال صيانة جوة" ولكني دخلت في مثل تلك أمور على المرء أن يكون مزودًا برصيد يكفي من الحيل، منعوني من التصوير ولكني صورت منعوني من كل شيء ففعلت كل شيء، بالداخل مبان خرسانية عملاقة يبدو أنها بُنيت دون هوادة على أكوام من جذوع الأشجار ولكن لا زالت بعض الأشجار التاريخية موجودة فشجرة"البانيان" لازالت ثمارها تنضج وأشجار " الماهايو"لازالت بفروعها الممتدة حيث تُحجب أشعة الشمس بمجرد المرور بجانبها.
في الطرف الجنوبي من الحديقة أو ما عاد يُعرف حسب تعريفه الهندسي ليسهل على العمال الغرباء معرفته بالمربع الرابع جري اجتثاث عدد كبير من الأشجار كانت متواجدة في ذلك المكان وتم بناء ما سيعرف لاحقًا بعد عمليات الإصلاح بالكافيتريا العامة.
أما منطقة " البرنس" والتي كانت معروفة بكونها المكان الذي يذهب إليه الزوار للجلوس على حشائشه الملساء والتمتع برؤية المارين من خلف أسوار الحديقة فقد أزيلت عن بكرة أبيها وبنيان ما سيعرف لاحقًا بمقر الخدمات والإستعلامات وهو مكان يبدو من تصميمه الخرساني المعقد أنه سيتحول إلي مول تجاري بداخل الحديقة.
أما الطرف المقابل لمحطة المترو من الحديقة والذي كان يعرف منذ أشهر بأنه المكان الذي كان مفكرنا الإنساني الاكثر جرأة جمال الدين الافغاني يلقي خطبه فيه، وقد كان يضم عشرات الأشجار المعمرة من ذوات العمر الطويل والمتوسط فقد شُيد فوقه مبني خرساني عملاق لا نعلم بالظبط ما كُنهته سألت أحد العمال والذي مر بجانبي عرضاّ وهو يحمل فوق كتفه كومة من حديد صدء فأجاب " دة هيبقي مبني إداري أو إستراحة تقريبًا كدا"
يخبرني محمد شوقي وهو أحد العمال الذين يعملون وراء بومبينج خرسانة ويقول أنه شاهد علي ما يحدث هنا بحكم إقامته داخل الحديقة للعمل: إنه لا يعرف اي قيمة تاريخية للأشجار ولكنه يشعر أنها قديمة فعلا، وأن كل يوم تقريبا تقوم الجرافات باقتطاع بعض الأشجار في أماكن عدة بالحديقة لتوسيع قاعدة البناء.
واضاف" أنا مش شغال وراء البلدوزر اللي بيشيل الشجر لكن كل يوم بشوفهم بيقلعوا شجر من جذوره عشان نشتغل إحنا صب خرسانة في المكان اللي قال عليه المهندس"
وقال" أنا معرفش أية هي الأشجار دي بس لو تاريخ زي ما أنت بتقول كدا، فحرام بصراحة يقلعوها".
أستاذ جامعي يرد
ما تقوله الحكومة أن ما يحدث بداخل الحديقة هو مجرد إصلاح وتجديد لاستعادة رونقها التاريخي ومجدها الغابر من خلال عمليات تطوير تستهدف هيكلتها من جديد.
ينطوي الأمر على معضلة أخلاقية وتناقض لغوي حاد فإذا كان التجديد هدفه أن تستعيد الحديقة رونقها التاريخي فكيف يكون ذلك على حساب مقتنياتها التاريخية، وإذا كان الهدف إعادة الهيكلة فكيف تكون دون وضع أي إعتبار للهوية التاريخية، يجيبنا أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة الأزهر محمد فهمي خلف قائلا: ينطوي الأمر على إشكالية على الحكومة أن تفهمنا إياها فإذا كان ما يحدث بداخل حديقة الأزبكية من إبادة كاملة للإرث التاريخي هو عملية إصلاح فعلينا مراجعة مفهوم الإصلاح لغويًا وعمليا.
وأضاف لـ " فيتو" "ما يحدث بحق الأشجار في مصر خاصةً ذوات الوزن التاريخي منها غير مقبول ويستلزم وقفة من الجهات التي تهتم بالتراث نحن الآن أمام أزمة تستهدف هويتنا الأمر أكبر من مجرد نبتة يتم قطعها الأمر يتعلق بمسألة هوية".
وقال" في دول أخري يجري التعامل مع مثل تلك الأشياء التاريخية بحساسية مفرطة خشية تلفها أو موتها أم نحن هنا فنقتعلها بأيدينا".
واستشهد بحادثة" قرأت في أحد نشرات التلفزيون منذ أعوام أن عمدة مدينة مارسيليا قام بفصل أحد موظفي حي lvatone والذي يقع غرب المدينة لأنه قام بقطع زهرة يرجع نسبة زراعتها إلي الجنرال الفرنسي راشيلو".