رئيس التحرير
عصام كامل

أشجار الزمالك العملاقة.. إرث الخديوية في قلب القاهرة.. ومؤرخ: الخديو إسماعيل استدان لجعل مصر قطعة من أوروبا

أشجار الزمالك،فيتو
أشجار الزمالك،فيتو

حي الزمالك اسم يغني عن طيب سرد واسهاب مديح، أحد أعرق أحيائنا السكنية رقيًا وحُسن سمعة، شوارعه المتسعة، مبانيه الفخمة، قصوره القديمة وأشجاره العتيقة، لا شيء في الزمالك لا يثير الفضول أبدا، فحتى أشجاره باتت تعرف بكونها خيطا تاريخيًا للإمساك بلفافة حِقب يستحيل رجوعها ولكن هناك من يشعر بالحنين إليها، أشجار ماتوا زارعوها وتحولت عظامهم في قبورهم إلى رميم وبقت هي متحدية بإصرار جليدي عادات الطبيعة وآفات الزمن وعبث الطيور، بقت لأن ما كان بوسعها غير أن تبقي فكل ماضً له مرشدوه.

 

قامت "فيتو" بجولة ميدانية لاستعراض أقدم أشجار حي الزمالك وعلاقتها بما بات يعرف بـ "القاهرة الخديوية"

شجرة اينكايا المعمرة،فيتو
شجرة الساندو المعمرة،فيتو

 

بارمينتية ومشروع التشجير

حينما تتجول في شوارع الزمالك خاصة التاريخية منها كأبو الفدا وابن زنكي وبرج القاهرة ستدهش من دقة التساوي بين مسافات الأشجار التي تزين تلك الشوارع بعضها بعضًا فالأمر ليس مصادفة على الإطلاق، فشغف الخديو إسماعيل بفن العمارة الحديثة في شوارع أوروبا دفعه إلى فكرة تصميم "القاهرة الخديوية" أو ما سيعرف لاحقًا بالقاهرة الحديثة، متأثرا بما رآه هناك من هندسة كلاسيكية وجمال معماري وفن يهدئ الروح ويهذب النفس.

وبحسب ما أورده الدكتور علي عبد الرؤوف في كتابه" شعب وميدان ومدينة" فإن الخديوي إسماعيل أوكل لمهندسين وهما واحد إيطالي اسمه" أنطونيو لاشياك" والثاني فرنسي ويدعي" هوسمان"  مهمة جعل القاهرة مدينة أوربية قائلا" أريدها باريس الشرق يا لاشياك" بينما اوكل لثالث وهو مهندس زراعي فرنسي يدعي " اوغسطين بارمينتية" مهمة تشجير شوارع القاهرة متأثرًا أيضا بشوارع روما وباريس وما رأه هناك من أشجار عملاقة تزين تلك الشوارع وما تضفية من منظر جمالي مهيب، فما كان من الأخير إلا أن قام بجلب مجموعة من أشجار "السناتور، الباندو،الفيكس البنجالس" أو ما يعرف بالتين البنغالي ذات الجذور الهوائية، وزراعتها في مناطق مختلفة في القاهرة والجيزة لتزين تلك الشوارع.

ويضيف الدكتور علي عبد الرؤوف في كتابه: إن الخديو إسماعيل أنفق ميزانية ضخمة من الخزانة العامة لاستكمال ذلك المشروع، وإنهائه وهو الأمر الذي لم يحدث  لتبقي"القاهرة الخديوية" حلما سرده التاريخ على أنه أنهك مصر اقتصاديا وأدخلها في دائرة الديون، ومن ثم التدخل السافر في شئونها.


وبحسب كتاب"إسماعيل ومعشوقته مصر" للدكتور حسين كفافي الصادر عن مكتبة عين، فإن مشروع القاهرة الخديوية لم يكن مشروعا هندسيا يقتصر على الجانب المعماري فقط بل كان وبحسب وصفه "هو" مشروع شامل يستهدف نقل كافة مظاهر الجوانب الجمالية في الحياة الأوربية وصبها في القاهرة.

 ويضيف الدكتور حسين كفافي في كتابة أن الأشجار العتيقة المتواجدة الآن في أحياء الزمالك والمعادي ومصر الجديدة هي بقايا ما أسماه الخديوي إسماعيل نفسه " أحيا الطبيعة في القاهرة" وأن باقي الأشجار قد اندثرت أما تحت ظواهر بشرية كأعمال حفر وإنشاء طرق وتوسيع مجاري أو طبيعية كموتها بيولوجيا أو تأثرها تحت ضغط زلازل أو فيضانات.

بعض من رسائل الحب علي شجرة الزمالك،فيتو
بعض من رسائل الحب دونت علي شجرة الزمالك الشهيرة،فيتو

ليست البانيان وحدها
على بعد أمتار قليلة من برج القاهرة، وفي منتصف الشارع الذي يؤدي إليه، تقابلك شجرة ضخمة لها فروع كبيرة، يكاد يكون كل منها أشبه بشجرة مستقلة، تنبثق منها شجيرات أخرى متعانقة وملفوفة ومتداخلة لتكون جدائل جذابة ومبهرة، وتُعرف باسم شجرة الزمالك الشهيرة،شجرة عتيقة اقتطعت 
عنوة تحت ضغط وزنها الثقافي وسمعتها التاريخية جزء من شارع عمومي فباتت أشبه بفزاعة عصافير، فالشجرة التي تجاوز عمرها أكثر من 154 عامًا وتحظى بشهرة تستحقها نظرًا لمكانتها التاريخية واهتمام شعبي يليق بموقعها الجغرافي، حيث يتجمع مصريون وأجانب وسائحون حولها يوميًا لالتقاط الصور الى جانبها، ومنهم من يأتي ليحفر ذكرياته عليها، إذ تمتلئ جذوعها بأسماء وحروف وقلوب وذكريات الأصدقاء والمحبين نظرًا لشهرتها وندرتها.

 

ومع الوقت تحوّل المكان الذي توجد به الشجرة إلى ديكور مثالي لإجراء جلسات تصوير و"فوتوسيشن" للعرائس والفنانين ومصممي الأزياء.

ولكن بجانب هذه الشجرة أشجار أخرى لم تحظ بنفس شهرتها على الرغم من قدمها فإذا كان عليك المرور من شارع ابن زنكي فسوف تصطدم بمجموعة متراصة من أشجار "سناتور" العملاقة والتي تجاوز عمر أغلبها أكثر من 120عاما أما إذا كنت من محبين اقتطاع طريق شارع جنينة الأسماك سيرا على الأقدام فسوف تلاحظ شجرة "اينكايا"،  أو ما تعرف بشجرة العثمانيين تقتطع الجانب الأيسر من الطريق محيازًا بعمارة ليبون الشهيرة وقد تجاوز عمر هذة الشجرة أكثر من مائتي عام خاصة أنها من الأشجار التي تعيش لقرون عديدة وتعرف بكونها من الأشجار المعمرة، شارع أبو الفدا أيضا من الشوارع الذي يحوي بداخلة أشجار من نوع "ميثوسيلا" أو ما تعرف بالصنوبر ذات الحوض الكبير ويقال إن هذا النوع من الأشجار تحديدًا قد يعيش لأكثر من 1000عام.

شجرة التين البنغالي الشهيرة،فيتو
جذع شجرة اينكايا المعمرة،فيتو
أشجار الزمالك،فيتو

ليست مجرد شجرة
لاشك وأنك قد عرفت أن أشجار الزمالك العملاقة هي جزء من مشروع القاهرة الخديوية والذي ينسب للخديوي إسماعيل وأنها هي الأثر الوحيد الذي لازال باقيًا من ذلك المشروع بجانب مباني وسط البلد ولكن العجيب أو ما يراه البعض عجيب هو كيف أمكن لهذه الأشجار الصمود كل هذة الفترة أمام ضغط الأزمنة وتغير البشر وتقلب المناخ.

 يجيبنا الدكتور أحمد علي زكي، أستاذ المورفولوجي بكلية الزراعة جامعة عين شمس: أن بعض الأشجار تمتاز بقدرتها على مد جذورها بداخل الأرض لمسافات عميقة وهو ما يسمى بالجذور الهوائية وبهذه الطريقة تتمكن تلك الأشجار من التشبث بالأرض واستخلاص غذاوها الطبيعي من ماء وأوكسجين مما يجعلها بمنأى عن أي تغير مناخي أو إهمال بشري قد يؤدي إلى ذبولها أو موتها وهي تلك الخصائص التي تميز ما يسمى بالأشجار المعمرة.

وأضاف لـ "فيتو" " لاشك أن أشجار الزمالك من تلك النوعية فشجرة التين البنغالي والتي تتوسط شارع برج القاهرة على سبيل المثال هي من ذوات الجذور الهوائية وقد يمتد حذرها لأكثر من عشرين مترا تحت الأرض مما يتيح لها فرض ما اسماه هو "وجودها التاريخي " وبقائها بمعزل عن أي تلف بيولوجي يؤدي إلى توقف نموها ومن ثم موتها".

أما عن الجانب التاريخي لهذة الأشجار فيخبرنا أستاذ الفكر الإنساني بكلية الآداب جامعة حلوان كمال النحاس في حديثة لـ "فيتو": أن أفكار الإنسان وعاطفته تشكل بناء على رموز وأحداث أغلبها تاريخية لم يعشها وهذا بالمناسبة سبب شعور أغلبنا بالحنين إلى الماضي أو النوستالجيا، لأننا أمام زمن لم نولد فية ولكن بجانبنا أثر يرشدنا إليه.

وقال " لاشك أن كل ما هو تاريخي يثير العاطفة ويتخذ الخيال ".

وتوافقه الرأي الدكتورة شادية قدري أستاذة علم الاجتماع السياسي جامعة عين شمس ففي إفادة لها لـ "فيتو" تقول" إن الأجيال وبحكم افتقاد معايشتها للماضي تشعر بالحنين إليه إما في صورة القراءة عنه أو مشاهدة الآثار المتبقية من تلك الحقب سواء أكانت أثرا معنويا ككتب التاريخ أو سماع الحكايات أو ملموسة كالمباني التي شيدت في تلك الحقبة أو حتى الأشجار التي زرعت فيها".

الجريدة الرسمية