البابا شنودة في قلوب المصريين!
ليست المرة الأولى التي أكتب وأتحدث فيها عن البابا شنودة الثالث، بابا الإسكندرية، وبطريرك الكرازة المرقسية وسائر بلاد المهجر، وهو البابا رقم 117، وكان أسقف التعليم المسيحي قبل أن يصبح البابا، وهو رابع أسقف يعتلي الكرسي البابوي بعد البابا يوأنس التاسع عشر، والبابا مكاريوس الثالث، والبابا يوسان الثاني، والبابا شنودة الثالث ولد باسم نظير جيد روفائيل في 3 أغسطس عام 1923 بمحافظة أسيوط بصعيد مصر..
وقد التحق بجامعة فؤاد الأول (القاهرة) بكلية الآداب، قسم التاريخ، وحصل على الليسانس بتقدير ممتاز عام 1947، والتحق بالكلية الإكليريكية وهو في السنة النهائية بكلية الآداب، وبعد حصوله على الليسانس بثلاث سنوات تخرج من الكلية الإكليريكية، وعمل مدرسًا للتاريخ، وكان يحضر دروسًا مسائية في كلية اللاهوت القبطي، حيث كان تلميذًا وأستاذًا في نفس الكلية في ذات الوقت..
ولقد كتبت أثناء حياته مقالًا بعنوان البابا شنودة ومواقفه الوطنية، وكنت معجبًا أشد الإعجاب بمواقفه، خاصة رفضه الذهاب مع الرئيس السادات لزيارة إسرائيل، ورفضه لعملية السلام مع العدو الصهيوني برمتها، فكان ثابتا على مواقفه لدرجة أنه رفض زيارة الأماكن المقدسة بفلسطين المحتلة قبل تحريرها من العدو الصهيوني.
وخلال هذا الأسبوع تمر الذكرى المئوية لميلاد البابا شنودة، حيث تحتفل الكنيسة القبطية بذكراه العطرة، وكان من حسن حظي أن تواصل معي الأستاذ عادل منير المعد بقناة مي سات التي تبث من داخل الكاتدرائية المرقسية بالعباسية، حيث تم الاتفاق معي على لقاء مباشر على الهواء مع الإعلامية الكبيرة ألفت كمال في برنامجها مساء الخير الذي يذاع يوميًا على ذات القناة لأتحدث عن لقائي السابق بقداسة البابا شنودة ومواقفه معي..
وقد أعجبت به إعجابًا شديدًا مما دفعني لأن أكتب عنه في حياته، وأعود اليوم للكتابة عنه مجددًا، وكما ذكرت في حياته أن مواقفه الوطنية الواضحة مسجلة في التاريخ المصري بحروف من نور، أذكر اليوم أن هذا الرجل ترك بصمة لن يمحوها الزمان من قلوب المصريين.
بدأ لقائي بالبابا شنودة أثناء إعدادي لأطروحة الدكتوراه قبل ما يزيد على ربع قرن، وكان عنوان أطروحتي، الخطاب السياسي للطبقة الوسطى المصرية، فعندما بدأت في عملية القراءة والتحليل تأكدت أن الطبقة الوسطى المصرية لا تمتلك خطابًا سياسيًا واحدًا، بل تمتلك عدة خطابات سياسية فرعية هى: الخطاب الليبرالي، والخطاب الماركسي، والخطاب السلطوي، والخطاب السلفي الإسلامي..
وهنا لح على خاطري موقف المسيحيين في مصر، وتحدثت في نفسي قائلًا أن المسيحيين يمتلكون خطابًا سياسيًا يمكن رصد أهم معالمه من خلال جريدة وطني لسان حال المسيحيين في مصر، كما كانت جريدة الوفد لسان حال الليبراليين، وجريدة الأهالي لسان حال الماركسيين، وجريدة مايو لسان حال السلطة، وجريدة الشعب لسان حال السلفيين الإسلاميين.
البابا شنودة في قلوب المصريين !!
وهنا جاء الخلاف مع بعض الكتاب والمثقفين المسيحيين الذين رفضوا اعتبار جريدة وطني منبرا مسيحيا، ورفضوا أيضًا أن يكون للمسيحيين خطاب سياسي مسيحي، وكان من بين هؤلاء الكاتب الكبير يوسف سيدهم رئيس تحرير جريدة وطني، والصديق الدكتور سامح فوزي الكاتب الصحفي في جريدة وطني آنذاك، وفي ظل هذا الخلاف كان لابد من الاحتكام للسلطة الأعلى وهو قداسة البابا شنودة الثالث، وبالفعل تم التجهيز والاتفاق على موعد اللقاء.
وفي هذه الأثناء كنت أعد نفسي لهذا اللقاء التاريخي مع قداسة البابا شنودة، حيث المواجهة الفكرية مع القيمة والقامة الفكرية العظيمة، فهو كاتب وشاعر ومفكر موسوعي، فكنت أنتظر بفارغ الصبر مقاله الأسبوعي بجريدة الأهرام، لأنهل من علمه وفكره، وكنت مولعًا جدًا بكتاباته..
وبالفعل أعددت العدة وجهزت كل المبررات لإثبات أن المسيحيين في مصر يمتلكون خطابًا سياسيًا مستقلًا عن الخطابات الفرعية الأخرى، حيث أنني كنت أعتبر أن مواقف البابا وخلافاته مع الرئيس السادات خلاف سياسي، وكنت أرى كذلك أن كل اشتباكاته مع السلطة السياسية دفاعًا عن حقوق المواطنة لأبناء الكنيسة الأرثوذكسية هي اشتباكات سياسية، وتعبر بالأساس عن نشاط سياسي واضح.
وحانت لحظة اللقاء، وبعد الترحيب كانت المواجهة التي سمح لي فيها قداسة البابا شنودة بطرح فكرتي كاملة، وقد صغى لي تمامًا بدون أي مقاطعة واحدة، وبعدما انتهيت من الطرح بدء قداسته في تفنيد أفكاري التي وجدتها تتهاوى أمام منطقه وحكمته ورجاحة عقله، وبدأت أقتنع بوجهة نظره، حيث أكد في البداية أن هناك انفصالًا بين الدين والسياسة في الفكر الديني المسيحي، حيث يقول السيد المسيح عليه السلام ( دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله)، "فليس هناك شيء اسمه المسيحية السياسية..
فالمسيحية ليس فيها تنظيم سياسي، وليس لها دعوة سياسية، بل هى دعوة روحية في الأساس والكنيسة المصرية تاريخيًا منذ إنشائها تحرص على الصلاة من أجل رئيس الدولة وقيادتها، ونحن ندين بالولاء دائمًا للوطن، وندعو في صلواتنا أن يمد الله رئيس الدولة بروح النصر، وأن يلهمه الحكمة والسداد، إن إخلاصنا للحاكم أمر عقدي يوصينا به الكتاب المقدس..
فنحن لا يمكن أن نكون معارضة للحكم، ونحن نرفض المعارضة ونرحب بالحوار واختلاف الآراء وتعدد الاتجاهات من أجل الصالح العام، هذا هو موقفنا الثابت، وأساسه في العقيدة وفي الكتاب المقدس، وأرجو أن يكون ذلك واضحًا ومفهومًا..
والهدف الأول للكنيسة هو أن يعيش الفرد في سلام روحي مع الله، ومن أجل تحقيق هذا الهدف لابد أن يعيش في سلام نفسي مع الآخرين أيًا كانت ديانتهم ومذاهبهم، لذلك لابد أن تكون هناك علاقة مباشرة بين الفرد والكنيسة، وبين الكنيسة والمجتمع، ولا يعني ذلك أن يكون للكنيسة دور سياسي، لكن لها دور اجتماعي، والكنيسة تعرف الحدود بين ما هو سياسي وما هو اجتماعي، فلا تتجاوز إلى الدور السياسي.
ثم بدأ يوضح لي الفرق بين الخطاب السياسي الذي يجب أن يكون معبرًا عن رؤية سياسية واحدة، ومنطلقًا من مرجعية فكرية محددة، كما هو الحال في الخطابات الليبرالية والماركسية والسلطوية والسلفية الإسلامية، وبين موقف المسيحيين وخطابهم في الحياة اليومية، والذي يتضمن عدد من الرؤى السياسية التي تنطلق من عدد من المرجعيات الفكرية، وبذلك أثبت لي أن المسيحيين يمتلكون رؤى سياسية متعددة، وليس خطابًا سياسيًا محددًا.
وخرجت من اللقاء وأنا معجب أشد الإعجاب بقداسة البابا، وكتبت لاحقًا عن مواقفه الوطنية، واليوم وبعد مرور عقد ونيف على الرحيل، وفي الذكرى المئوية لميلاده يتجدد الحنين لحديث هذا الرجل الفريد وحواراته وكتاباته التي كانت ولاتزال تخطف قلوب المصريين، لذلك سيظل البابا شنودة رمزًا مضيئًا يسكن في قلوب كل المصريين، اللهم بلغت اللهم فاشهد.