حكم بيع القمح في السوق السوداء لاستخدامه بدلا من العلف الحيواني
حكم بيع القمح في السوق السوداء، ورد إلى دار الإفتاء سؤال يقول ما حكم بيع القمح في السوق السوداء لاستخدامه بدلًا من العلف الحيواني؟
من جانبها قالت دار الإفتاء إنه لَمَّا كان القمحُ أَهَمَّ أقوات المصريين، حَظِيَ أمرُ إدارته بعنايةٍ خاصةٍ مِمَّن وَلُوا مصر على مَرِّ العصور وتعاقُب الدهور، بل لأهميته قيَّض المولى سبحانه وتعالى لأهل مصر نبيًّا مِن أنبيائه لإدارة شأنه على وجه الخصوص، وهو نَبِيُّ الله يوسف عليه السلام، فوضع لإدارته نظامًا مُحْكَمًا، وقانونًا مُرَتَّبًا، مِن بداية الحرث والغرس، وحتى الحصاد والتخزين والاستهلاك؛ قال تعالى على لسان نَبِيِّهِ يوسف عليه السلام: ﴿قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ﴾ [يوسف: 47‑49].
حكم بيع القمح في السوق السوداء
قال فخر الدين الرازي في "مفاتيح الغيب" (18/ 465، ط. دار إحياء التراث العربي): [اعلم أنه عليه السلام ذكر تعبير تلك الرؤيا فقال: ﴿تَزْرَعُونَ﴾، وهو خبرٌ بمعنى الأمر.. وإنما يخرج الخبر بمعنى الأمر، ويخرج الأمر في صورة الخبر، للمبالغة في الإيجاب، فيجعل كأنه وُجِدَ، فهو يُخْبِرُ عنه، والدليل على كونه في معنى الأمر: قوله: ﴿فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ﴾] اهـ.
ومعلومٌ أن تأويل نبي الله يوسف عليه السلام رؤيا الملِك ليس اجتهادًا منه، وإنما هو مِن عِلم الله الذي تَلَقَّاه بالوحي، دَلَّ على ذلك قول الله تعالى: ﴿ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ﴾؛ حيث فَصَّلَ الحالَ وَبَيَّنَهُ في السَّنَة التي سوف تأتي بَعد السَّبْع السِّنِينَ الْعِجَاف، ولم يكن ذلك في رؤيا الملِك، فدلَّ على أنه عَلِمَه مِن جهة الوحي.
قال الإمام الزمخشري في "الكشاف" (2/ 477، ط. دار الكتاب العربي): [ثم بشَّرهم بَعدَ الفراغ مِن تأويل الرؤيا بأنَّ العام الثامن يجيءُ مبارَكًا خَصِيبًا كثيرَ الخَيْرِ غَزِيرَ النِّعَمِ، وذلك مِن جهة الوحي، وعن قتادة: "زَادَهُ اللهُ عِلْمَ سَنَةٍ".
فإن قلتَ: معلومٌ أنَّ السنين المجدبة إذا انتهت كان انتهاؤها بالخصب، وإلا لَم توصف بالانتهاء، فَلِمَ قلتَ: إنَّ علمَ ذلك من جهة الوحي؟ قلتُ: ذلك معلومٌ عِلْمًا مُطلقًا لا مُفَصَّلًا، وقوله: ﴿فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ﴾ تفصيلٌ لحالِ العامِ، وذلك لا يُعلم إلا بالوحي] اهـ.
وما كان هذا الادخارُ للقمح إلا تدبيرًا ربانيًّا مُحكَمًا، وتمهيدًا لتشريع ادخار الأقوات للتموين، أوحى به الحق سبحانه وتعالى إلى نَبِيِّهِ يوسفَ عليه السلام، كي يُعَلِّمَهُ الناسَ ويُرشدَهم إليه؛ فتنتظم بذلك أمور معاشهم.
قال فخر الدين الرازي في "مفاتيح الغيب" (3/ 493): [جميع أقاصيص الأنبياء تنبيهٌ وإرشاد] اهـ.
وقال العلامة الطاهر ابن عاشور في "التحرير والتنوير" (12/ 286، ط. الدار التونسية): [وقد مَزَجَ تعبيره بإرشادٍ جليلٍ لأحوال التموين والادِّخار لمصلحة الأمة، وهو مَنَامٌ حِكْمَتُهُ كانت رؤيا الملِك لطفًا مِن الله بالأمة التي آوت يوسف عليه السلام، ووحيًا أوحاه الله إلى يوسف عليه السلام بواسطة رؤيا الملك، كما أوحى إلى سليمان عليه السلام بواسطة الطير، ولعل الملك اسْتَعَدَّ لِلصَّلَاحِ وَالْإِيمَانِ، وكان ما أشار به يوسف عليه السلام على الملك من الادخار تمهيدًا لشرع ادِّخار الأقوات للتموين، كما كان الوفاءُ في الكيل والميزان ابتداءَ دعوةِ شعيبٍ عليه السلام] اهـ.
وهذا التصرُّفُ مِن نبي الله يوسف عليه السلام "كان واجبًا عليه لِوُجُوهٍ:
الأول: أنه كان رسولًا حقًّا مِن الله تعالى إلى الخلق، والرسول يجب عليه رعاية مصالح الأمة بقدر الإمكان.
والثاني: وهو أنه عليه السلام عَلِمَ بالوحي أنه سيحصُل القَحطُ والضِّيق الشديد الذي ربما أفضى إلى هلاكِ الخلقِ العظيم، فلَعَلَّهُ تعالى أمَره بأنْ يدبِّر في ذلك ويأتي بطريقٍ لِأَجْلِهِ يَقِلُّ ضَرَرُ ذلك القَحْطِ في حقِّ الخَلق.
والثالث: أن السعي في إيصال النفع إلى المستحقين ودفع الضرر عنهم أمرٌ مستحسَنٌ في العقول.
وإذا ثبت هذا فَنَقُول: إنه عليه السلام كان مكلَّفًا برعاية مصالح الخلق مِن هذه الوجوه، وما كان يُمْكِنُهُ رِعَايتُها إلا بهذا الطريق، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فكان هذا الطريقُ واجبًا عليه"؛ كما قال فخر الدين الرازي في "مفاتيح الغيب" (18/ 473).
فلَمَّا التزموا أَمْرَهُ وانْصَاعُوا لحُكمِهِ وأَنْفَذوا قراراته في إدارة شأن القمح، نَجَا العِبَاد، وَعَمَّ خيرُ مصر على البلاد، ثم ختم الحقُّ سبحانه وتعالى السورة بقوله: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [يوسف: 111]، وفي ذلك حكمةٌ بديعةٌ وإشارةٌ لطيفةٌ لأولي الألباب، وكأن الحق سبحانه وتعالى يشير إلى أخذ العبرة من القصة وما فيها من آياتٍ وحِكَم، ومن ذلك أنَّ صلاح أقوات الرعية يكمن في الالتزام بما وضعه وليُّ الأمر من قوانين وقرارات لضمان استقرار الدولة وتوفير احتياجات أفرادها.
مدى جواز تدخل ولي الأمر من أجل منع البيع والشراء وقت الأزمات
قرر الفقهاء حقَّ وليِّ الأمر في مَنْع الطَّحَّانِين مِن شراء القمح جملةً بقَصْد طَحْنِه وبَيْعِهِ للناس دقيقًا تَجزئةً طلبًا للرِّبح وتيسيرًا على المستهلِكِين للاستعمال الفردي إذا كان هذا الفِعل سوف يؤدي إلى غُلُوِّ سِعره على عامة الناس، أو عدمِ حصول الكفاية في المِرفق الذي هو لعموم الناس كالخبز مثلًا.
قال الإمام ابن رشد في "البيان والتحصيل" (9/ 322، ط. دار الغرب الإسلامي): [وسئل مالكٌ عن الطَّحَّانين يَشترون الطعام فيُغْلُون بذلك أسعارَ الناس، قال: أرى أنَّ كلَّ ما أَضَرَّ بالناس في أسعارهم أنْ يُمْنَعَهُ الناسُ، فإنْ أَضَرَّ ذلك بالناس مُنِعُوا منه. قال محمد بن رشد في شراء الطحانين الطعام جملةً مِن الجُلَّاب، وبَيْعِهِ على أيديهم دقيقًا رفقًا بعامة الناس لِمَشَقَّةِ الطحين عليهم إذا اشترَوُا القمحَ: فإنْ كان ذلك يُغْلِي عليهم الأسعارَ، فالواجبُ أنْ يَنظُر السلطانُ في ذلك، فإن كان لا يَفِي المرفقَ الذي للعامة في ذلك بما يُغْلِيه مِن أسعارهم، مَنَعَ مِن ذلك، وإن كان يَفِي به أو يَزيدُ عليه فيما يراه باجتهاده، لم يَمْنَع مِن ذلك] اهـ.
وعلى هذا الهَدْي سار المصريون، وزخر التاريخ المصري بالتنظيمات الإدارية والإجراءات الضبطية في هذا الشأن، ومن ذلك: ما جاء في حوادث سنة (818) هجرية/ 1415 ميلادية: أنه قد حدث غلاءٌ في سعر القمح، حتى تزاحم الناس على الأفران، فـ"تصدَّى السلطان بنَفْسِهِ للنَّظَر في الأسعار، وعمل معدَّل القمح، وقد بلغ سعر الإرْدَبِّ منه أَزْيَدَ مِن ستمائة درهم إنْ وُجِدَ، والإرْدَب الشعير إلى أربعمائة درهم، فانْحَطَّ السعر لذلك قليلًا، وسَكَنَ رَوْعُ الناس؛ لِكَوْن السلطان يَنظُر في مَصالحهم"؛ كما قال جمال الدين ابن تَغْرِي بَرْدِي في "النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة" (14/ 39، ط. دار الكتب المصرية)، ثم عَقَّب بقوله: [فلهذا وأبيكَ العملُ، ولَعَلَّ اللهَ سبحانه وتعالى أن يغفر للمؤيَّد ذُنوبَه بهذه الفعلة؛ فإن ذلك هو المطلوب مِن الملوك، وهو حسن النظر في أحوال رعيتهم] اهـ.
وعلى هذا الأصل العام لقواعد الشرع الشريف وهذه الإجراءات التنظيمية الْـمُتَّبَعَة على مَرِّ القرون وتعاقُب الحوادث وما سار عليه المصريون -جاء قرار وزارة التموين والتجارة الداخلية رقم (٦٧) لسنة ٢٠٢٣م بشأن استلام القمح المحلي (موسم حصاد عام ۲۰۲۳م) وتنظيم تداوُلِهِ والتعامل عليه، وحظر استخدامه أو حيازته بغرض الاستخدام في مكونات الأعلاف.
حكم الشرع في بيع محصول القمح في السوق السوداء كبديل للعلف الحيواني
على ذلك يكون بيع القمح المحلي في السوق السوداء لاستخدامه في العلف الحيواني أو كبديلٍ له -أمرًا ممنوعًا شرعًا؛ لأن فيه مخالفةً لقرار ولي الأمر في هذا الشأن، ولما فيه من تضييقٍ على الناس؛ حيث يؤدي ذلك إلى قِلَّةِ المخزون الإستراتيجي مِن القمح، مما يسبب في تفاقم الأزمات الاقتصادية التي تمر بها البلاد، بل قد يؤدي إلى العجز عن توفير الدعم اللازم من الأقوات للمستحقين، فيتضرر المواطن ويتأذى في أهم حاجاته وهي قوته وغذاؤه.
ما يجب على الإنسان وقت الأزمات والتحذير من الجشع والاستغلال
الواجب على كل مواطنٍ عند الأزمات والمحن أن يتكاتف ويتعاون مع أبناء مجتمعه، وأن يبذل ما لديه لِسَدِّ خُلَّتِهِم، لا أن يستغل حاجتهم وفاقَتَهم، فليس ذلك مِن شِيَمِ الرجال، فإنَّ معادن الرجال تظهر عند الأزمات والشدائد، وللمصريين في فِعل الأَشعَرِيِّين رضي الله عنهم مَثَلٌ أعلى؛ فقد روى الشيخان في "صحيحيهما" عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ الْأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِي الغَزْوِ أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ، جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ، فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ».
وقوله: «أَرْمَلُوا فِي الغَزْوِ» أي: "فَنِيَ زادُهُم، وأصلُه مِن الرَّمْل، كأنهم لَصقُوا بالرَّمْل مِنَ القِلَّة"؛ كما قال شهاب الدين القَسْطَلَّانِيُّ في "إرشاد الساري" (4/ 283، ط. الأميرية).
فإذا غلب على بعض الناس طبْع الجَشَع واستَغَلُّوا ما يحدث للناس مِن أزماتٍ خاصة فيما يتعلق بأقواتهم، فخالفوا أمْر ولي الأمر وباعوا القمح في السوق السوداء، فإنهم بذلك قد جمعوا مِنَ الإثم أبوابًا كثيرة؛ حيث افتأتوا على ولي الأمر، وشاركوا في تفاقُمِ الأزمة، وارتفاعِ الأسعارِ، واستغلالِ حاجَةِ الناسِ، وضيَّقوا عليهم في معاشِهِم وقُوتِهِم، ويستحقون حينئذٍ المؤاخذة في الدنيا والآخرة؛ حيث ينطبق عليهم قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ دَخَلَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَسْعَارِ الْمُسْلِمِينَ لِيُغْلِيَهُ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ حَقًّا عَلَى اللهِ أَنْ يُقْعِدَهُ بِعُظْمٍ مِنَ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» أخرجه الأئمة: البيهقي في "السنن الكبرى"، والطيالسي وأحمد -واللفظ له- والروياني في "مسانيدهم" مِن حديث معقل بن يسار رضي الله عنه.
كما نصَّ قرار وزارة التموين والتجارة الداخلية -السالف ذكره- في المادة الحادية عشرة منه على العقوبات المتبعة عند وقوع المخالفة لذلك.
وبناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فإنه يُمنَعُ شرعًا، ويُجرَّم قانونًا، بَيْعُ القمح المحلي في السوق السوداء لاستخدامه كبديلٍ للعلف الحيواني؛ كما سبق بيانه.
ونقدم لكم من خلال موقع (فيتو)، تغطية ورصدًا مستمرًّا على مدار الـ 24 ساعة لـ أسعار الذهب، أسعار اللحوم ، أسعار الدولار ، أسعار اليورو ، أسعار العملات ، أخبار الرياضة ، أخبار مصر، أخبار اقتصاد ، أخبار المحافظات ، أخبار السياسة، أخبار الحوادث ، ويقوم فريقنا بمتابعة حصرية لجميع الدوريات العالمية مثل الدوري الإنجليزي ، الدوري الإيطالي ، الدوري المصري، دوري أبطال أوروبا ، دوري أبطال أفريقيا ، دوري أبطال آسيا ، والأحداث الهامة و السياسة الخارجية والداخلية بالإضافة للنقل الحصري لـ أخبار الفن والعديد من الأنشطة الثقافية والأدبية.