رئيس التحرير
عصام كامل

ما حكم مصافحة المصلين بعد الصلاة؟ الإفتاء تجيب

حكم المصافحة بعد
حكم المصافحة بعد الصلاة،فيتو

حكم مصافحة المصلين بعد الصلاة، ورد إلى دار الإفتاء المصرية سؤال يقول ما حكم المصافحة عقب الصلاة بين المصلين؟ حيث إن هناك بعض الناس يقول بأنها بدعة؛ بحجة أنها لم ترد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا صحابته الكرام، وأنها تشغل المصلي عن أذكار ختام الصلاة؟
 

مشروعية المصافحة بين الناس عند كل لقاء

ومن جانبها قالت دار الإفتاء من المقرر شرعًا أنَّ المصافحة من الأفعال المسنونة التي تُغفر بها الذنوب، وتُحَط بها الأوزار؛ فعن البراء بن عازبٍ رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يَلْتَقِيَانِ فَيَتَصَافَحَانِ إِلَّا غُفِرَ لَهُمَا قَبْلَ أَنْ يَفْتَرِقَا» أخرجه أحمد في "المسند"، وأبو داود والترمذي وابن ماجه في "السنن"، وابن أبي شيبة في "المصنف".

وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا لَقِيَ الْمُؤْمِنَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَأَخَذَ بِيَدِهِ فَصَافَحَهُ، تَنَاثَرَتْ خَطَايَاهُمَا كَمَا يَتَنَاثَرُ وَرَقُ الشَّجَرِ» أخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط"، وابن شاهين في "الترغيب"، والمنذري في "الترغيب والترهيب"، وقال بعده: "رواه الطبراني في الأوسط، ورواته لا أعلم فيهم مجروحًا".

ومن ذلك ما أخرجه الإمام مالك في "الموطأ" من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «تَصَافَحُوا يَذْهَبِ الْغِلُّ، وَتَهَادَوْا تَحَابُّوا، وَتَذْهَبِ الشَّحْنَاءُ».

وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ فَسَلَّمَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ وَتَصَافَحَا كَانَ أَحِبَّهُمَا إِلَى اللهِ تَعَالَى أَحْسَنُهُمَا بِشْرًا لِصَاحِبِهِ» أخرجه الإمام البيهقي في "شعب الإيمان".

فهذه الأدلة بمجموعها تدل على مشروعية المصافحة والحث عليها، وعلى ذلك جمهور العلماء سلفًا وخلفًا:

قال الإمام ابن عبد البر في "الاستذكار" (8/ 292، ط. دار الكتب العلمية): [على جواز المصافحة جماعة العلماء من السلف والخلف، ما أعلم بينهم في ذلك خلافًا] اهـ.

وهذه الأدلة وغيرها من النصوص جاءت مطلقة، ومن المقرر في علم الأصول أنَّ الأمر المطلق يقتضي العموم البدلي في الأشخاص والأحوال والأزمنة والأمكنة، وإذا شرع الله تعالى أمرًا على جهة العموم أو الإطلاق فإنه يؤخذ على عمومه وسعته، ولا يصح تخصيصه ولا تقييده بوجه دون وجه إلا بدليل، وإلا كان ذلك بابًا من أبواب الابتداع في الدين بتضييق ما وسَّعَه الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

كما أن فِعْلَ النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبعض أفراد العموم الشمولي أو البدلي ليس مخصصًا للعموم ولا مقيدًا للإطلاق ما دام أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يَنْهَ عما عداه، وهذا هو الذي يعبر عنه الأصوليون بقولهم: الترك ليس بحجة؛ أي أن ترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأمرٍ ما لا يستلزم منه عدم جواز فعله.

الصلاة

 

حكم المصافحة بين المصلين بعد الصلاة وأقوال الفقهاء في ذلك


أما عن حكمها في خصوص فعلها بعد الصلاة فإن وُرُودَ الأمر بعموم مشروعية المصافحة بين الناس عند كلِّ لقاء، دون تقييدها بوقتٍ دون وقتٍ، يقتضي كونها سُنَّةً مشروعةً بين المصلِّين عقب الصلوات الخمس وعند كلِّ صلاةٍ، وهذا ما فهمه المسلمون وجرى عليه عملهم جيلًا بعد جيل، وتتابعوا عليه في كثير من الأعصار والأمصار من غير إنكار، وتواردت على سُنِّيَّتِهِ أقوال الفقهاء من المذاهب الفقهية المتبوعة.

قال العلامة الطحطاوي الحنفي في "حاشيته على مراقي الفلاح" (ص: 530، ط. دار الكتب العلمية): [وكذا تُطلب المصافحة؛ فهي سُنَّة عقب الصلاة كلها، وعند كل لُقِيٍّ] اهـ.

وقال العلامة محمد بن عمر الحانوتي (ت: 1010هـ) في "إجابة السائلين بفتوى المتأخرين" (ق: 6 ب، مخطوط رقم 3018، جامعة الملك سعود): [نصت العلماء رضي الله عنهم على أن مصافحة المسلم للمسلم مسنونةٌ، من غير أن يقيِّدوه بوقتٍ دون وقتٍ؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَن صَافَحَ أَخَاهُ المُسْلِم وَحَرَّكَ يَدَهُ؛ تَنَاثَرت ذُنُوبُه» وقال أيضًا: «إِذَا التَقَى المُؤْمِنَان فَتَصَافَحَا تَنَاثَرْت ذُنُوبُهُمَا كَمَا يَتَنَاثَر الوَرَقُ اليَابِسُ مِن الشَّجرة، وَنَزَلْت عَلَيهمَا تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ رحمة لِأَسْبَقِهِمَا، وواحدةٌ لصَاحِبِه»، وقال أيضًا صلى الله عليه وآله وسلم: «ما مِن مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غُفر لهما قبل أن يتفرقا»، فالحديث الأول يقتضي مشروعية المصافحة مطلَقًا؛ أعمَّ مِن أن تكون عقب الصلوات الخمس أو الجمعة أو العيدين أو غير ذلك؛ وأعم مِن أن يكون عند اللُّقي أو لا، لكن هي أيضًا عامة في كونها بعد الصلوات المذكورة أو لا ومطلقة أيضًا عن الوقت؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يَخُصَّها بوقت دون وقت، فإذا فُعِلَت في أيِّ وقتٍ كان؛ كانت من مقتضيات هذه الأدلة، وداخلة تحت عمومها، ولا يُشتَرَط فعلُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم المصافحة ولا أمرُه عليه الصلاة والسلام بفعلها في خصوص هذه الأوقات لدخولها تحت عموم أمره عليه الصلاة والسلام بالمصافحة؛ لأنه مماصدقات ما أفاده الدليل، وإلا لَمَا كان يمكن العمل بعمومات الأدلة، مع أنَّ الدليل العام عند الحنفية حيث لم يقع فيه تخصيصٌ هو من الأدلة الموجِبة لحكمه قطعًا كالدليل الخاص؛ حتى قالوا: إن العام يعارض الخاص لقُوَّتِه، والدليل هنا عامٌّ؛ لأن قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «من صافح أخاه..» إلى آخر الحديث عامٌّ؛ لأن صيغة (مَن) مِن صيغ العموم، وكذا صيغة (ما)، ومطلق أيضًا، ويكفي هذا دليلًا على سُنِّيّة المصافحة] اهـ، ونقله عنه العلامة الشرنبلالي الحنفي في "سعادة أهل الإسلام بالمصافحة عقب الصلاة والسلام" (ص: 54، ط. دار الصالح).

وقال الإمام النووي الشافعي في "المجموع شرح المهذب" (4/ 633-634، ط. دار الفكر): [وتسن المصافحة عند كلِّ لقاء، وأما ما اعتاده الناس من المصافحة بعد صلاتي الصبح والعصر فلا أصل له في الشرع على هذا الوجه ولكن لا بأس به؛ فإن أصل المصافحة سنة، وكونهم خَصُّوها ببعض الأحوال وفرطوا في أكثرها لا يخرج ذلك البعض عن كونه مشروعة فيه] اهـ.

وقال العلامة الفقيه داماد أفندي الحنفي في "مجمع الأنهر" (1/ 256، ط. دار الكتب العلمية): [وكذا المصافحة؛ بل هي سُنَّة عقيب الصلاة كلها، وعند الملاقاة كما قال بعض الفضلاء] اهـ.

وذهب الإمام ابن الماجشون من المالكية إلى إجازة المصافحة في الصلاة؛ وقد نقل ذلك عنه غير واحد من فقهاء المالكية؛ قال الإمام ابن أبي زيد القيرواني في "النوادر والزيادات" (1/ 233، ط. دار الغرب الإسلامي): [قال ابن الماجشون: ولا بأس بالمصافحة في الصلاة] اهـ.

فإن كان هذا جائزًا في الصلاة فإنه يكون خارجها مِن باب أولى؛ سواء كان ذلك قبلها أم بعدها.

بيان مفهوم البدعة والرد على من ادَّعى أن المصافحة بعد الصلاة بدعة


أما دعوى عدم جواز المصافحة عقب الصلاة؛ لأنها بدعة، فهذا قول مردود؛ وذلك لأن للعلماء في تعريف البدعة شرعًا مسلكين:

المسلك الأول: وهو مسلك الإمام العز ابن عبد السلام؛ حيث اعتبر أن ما لم يفعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم بدعة، وجعلها تدور مع أحكام الشرع التكليفية الخمس؛ حيث قال في "قواعد الأحكام في مصالح الأنام" (2/ 204، ط. مكتبة الكليات الأزهرية): [البدعة فِعْلُ مَا لم يعهد في عصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهي منقسمة إلى: بدعة واجبة، وبدعة محرمة، وبدعة مندوبة، وبدعة مكروهة، وبدعة مباحة، والطريق في معرفة ذلك أن تُعْرَض البدعة على قواعد الشريعة: فإن دخلت في قواعد الإيجاب فهي واجبة، وإن دخلت في قواعد التحريم فهي محرمة، وإن دخلت في قواعد المندوب فهي مندوبة، وإن دخلت في قواعد المكروه فهي مكروهة، وإن دخلت في قواعد المباح فهي مباحة] اهـ.

وأكد الحافظ ابن حجر العسقلاني هذا المعنى؛ حيث قال في "فتح الباري" (2/ 394، ط. دار المعرفة): [وكلُّ ما لم يكن في زمنه يسمى بدعةً، لكن منها ما يكون حسنًا، ومنها ما يكون بخلاف ذلك] اهـ.

والمسلك الثاني: جعل مفهوم البدعة في الشرع أخص منه في اللغة، فجعل البدعة هي المذمومة فقط، ولم يسم البدع الواجبة والمندوبة والمباحة والمكروهة بدعًا كما فعل الإمام العز ابن عبد السلام، وإنما اقتصر مفهوم البدعة عنده على المحرَّمة، وعلى ذلك جماهيرُ الفقهاء.

وممَّن ذهب إلى ذلك: الإمامُ ابن رجب الحنبلي؛ فقال في "جامع العلوم والحكم" (2/ 781، ط. دار السلام): [المراد بالبدعة ما أُحْدِثَ ممَّا لا أصل له في الشريعة يدلُّ عليه، فأمَّا ما كان له أصلٌ مِنَ الشَّرع يدلُّ عليه، فليس ببدعةٍ شرعًا، وإنْ كان بدعةً لغةً] اهـ.

وفي الحقيقة فإن المسلكين اتفقا على حقيقة مفهوم البدعة المذمومة شرعًا، وإنما الاختلاف في المدخل للوصول إلى هذا المفهوم المتفق عليه، وهو أن البدعة المذمومة التي يأثم فاعلها شرعًا هي التي ليس لها أصلٌ في الشريعة يدل عليها، وهي المرادة من قوله صلى الله عليه وآله وسلم فيما أخرجه مسلمٌ في "صحيحه" عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: «كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ».

 

الصلاة

 

وكان على هذا الفهم الواضح الصريح أئمة الفقهاء وعلماء الأمة المتبوعون؛ فقد روى أبو نعيم في "الحلية"، والبيهقي في "مناقب الشافعي" عن الإمام الشافعي رضي الله عنه أنه قال: "المحدثات من الأمور ضربان: أحدهما: ما أحدث مما يخالف كتابًا أو سُنَّة أو أثرًا أو إجماعًا، فهذه بدعة الضلالة، والثاني: ما أحدث من الخير لا خلاف فيه لواحد من هذا، فهذه محدثة غير مذمومة".

وقال حجة الإسلام أبو حامد الغزالي في "إحياء علوم الدين" (2/ 3، ط. دار المعرفة): [ليس كل ما أبدع منهيًّا عنه، بل المنهيُّ عنه بدعةٌ تضاد سُنَّةً ثابتةً، وترفع أمرًا من الشرع] اهـ.

فتعبير بعض العلماء عن حكم المصافحة بأنه بدعة، لا يقتضي تحريمها، بل لا يقتضي كراهتها؛ وذلك لوجود مشروعية المصافحة في الأصل، بدون تقييد أو تخصيص؛ ولذلك فإننا لو سلمنا جدلًا بأنها بدعة فهي تدور بين البدعة المباحة والمندوبة؛ كما ذكر الإمام العز ابن عبد السلام في "القواعد" (2/ 204).

 

الدليل على سنية المصافحة بعد الصلاة


صحَّ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما يدل على سنية المصافحة عقب الصلاة، وذلك بمصافحة أصحابه رضوان الله عليهم له بعد الصلاة وعدم نهيهم عن ذلك:

فعن أَبي جُحَيْفَةَ رضي الله عنه قال: "خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بِالْهَاجِرَةِ إلى الْبَطْحَاءِ، فتوضأ، ثم صلَّى الظهر ركعتين، والعصر ركعتين وبين يديه عَنَزَةٌ، وقام الناس فجعلوا يأْخذون يديه فيمسحون بها وجوههم"، قال أبو جحيفة: "فأخذت بيده فوضعتها على وجهي، فإذا هي أَبْرَدُ من الثلج، وأطيب رائحةً من المسك" أخرجه الإمام البخاري في "صحيحه".

وعن جابر بن يزيد بن الأسود، عن أبيه رضي الله عنه: أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلَاةَ الصبح، قال: فقام الناس يأخذون بيده يمسحون بها وجوههم، قال: "فأخذتُ بيده فمسحتُ بها وجهي، فإذا هي أبردُ من الثلج، وأطيبُ ريحًا من المسك" أخرجه أحمد، والدارمي في "مسنديهما"، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني"، وابن خزيمة في "صحيحه"، والطبراني في "المعجم الأوسط"، وأصله عند أبي داود والترمذي في "السنن"، قال الترمذي: حسن صحيح.

قال الإمام المحب الطبري في "غاية الإحكام في أحاديث الأحكام" (2/ 224، ط. دار الكتب العلمية): [هذه الأحاديثُ كلُّها دالٌّ على شرعية التبرك بمس كفِّ من تُرجَى بركتُه؛ مصافحةً أو مسحًا على عضو أو غمسًا في ماء، كما تضمنته الأحاديث، فيُسْتَأْنَسُ به فيما تطابق الناس عليه من المصافحة بعد الصلوات في الجماعات، لا سيَّما في الصبح والعصر، ولا نكير في ذلك إذا اقترن به قصدٌ صالحٌ؛ من تبركٍ أو تودُّدٍ أو نحو ذلك] اهـ.

فإذا كانت المصافحة عقب الصلاة لمقصد مشروع؛ كالتبرك أو التودد أو نحو ذلك من المقاصد الشرعية؛ فإن ما كان وسيلة لهذا المقصد المشروع كان مشروعًا، فمن المقرر في قواعد الفقه أن "للوسائل حكم المقاصد"، فما يتوصل به إلى الواجب فهو واجب، وما يتوصل به إلى مندوب فهو مندوب، والمودة والرحمة والألفة أمور مندوبة؛ ولهذا فإنَّه إذا كان المقصد من المصافحة مندوبًا، فإن الوسيلة تكون مندوبة تبعًا لمقصدها.

قال الإمام القرافي في "الفروق" (2/ 33، ط. عالم الكتب): [موارد الأحكام على قسمين: مقاصد: وهي المتضمنة للمصالح والمفاسد في أنفسها. ووسائل: وهي الطرق المفضية إليها، وحكمها حكم ما أفضت إليه من تحريم وتحليل، غير أنها أخفض رتبة من المقاصد في حكمها، والوسيلة إلى أفضل المقاصد أفضل الوسائل، وإلى أقبح المقاصد أقبح الوسائل، وإلى ما يتوسط متوسطة] اهـ.

وقال أيضًا في (3/ 3): [الوسائل تُعْطى حكم المقاصد] اهـ.

أما مَن ذهب إلى كراهتها؛ فإنهم قالوا ذلك؛ سدًّا لذريعة اعتقاد العامي أنها مِن تمام الصلاة أو سننها المأثورة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومنهم مَن استدل بترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهذا الفعل على عدم مشروعيته، ومع قول هؤلاء بكراهتها فإنهم نَصُّوا على أنه إذا مَدَّ مسلمٌ يدَه إليه ليصافحه فلا ينبغي الإعراض عنه بجذب اليد؛ لِما يترتب عليه مِن أذًى بكسر خواطر المسلمين وجرح مشاعرهم، ودفعُ ذلك بجبر الخواطر مقدَّمٌ على مراعاة الأدب بتجنب الشيء المكروه عندهم؛ إذ مِن المقرر شرعًا أن دَرء المفاسدِ مُقَدَّمٌ على جَلب المصالح. ينظر: "مرقاة المفاتيح" للعلامة الملا علي القاري (4/ 1674، ط. دار الفكر).

على أن جمهور العلماء ومحققيهم على ترك التوسع في باب سد الذرائع؛ لِما يجر إليه مِن التضييق على الخَلق وإيقاعهم في الحرج، والاستدلالُ بالتَرك على عدم المشروعية موضعُ نظرٍ عند الأصوليين؛ بل الأصل في الأفعال الإباحة، هذا مع أنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مصافحةُ الصحابة الكرام له وأخذهم بيدَيه الشريفتين بعد الصلاة كما تقدم.

 

ثواب تكرار إلقاء السلام


كما أن السلام والتحية بين الناس مأمورٌ بهما عند كل لُقْيَا، إلى حدِّ الأمر بمعاودة السلام بينهم كلما شغلهم شاغل أو حالَ بينهم حائلٌ من جدارٍ أو غيره، وهو المرويُّ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصحابته رضي الله عنهم.

فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دخل المسجد، فدخل رجل فصلى، ثم جاء فسلم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فرد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم السلام؛ قال: «ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ» فرجع الرجل فصلى كما كان صلى، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فسلم عليه؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «وَعَلَيْكَ السَّلَامُ»، ثم قال: «ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ» حتى فعل ذلك ثلاث مرات. متفق عليه.
وعنه رضي الله عنه أنه قال: "إذا لقيَ أحدُكُم أخاه فليُسلم عليهِ، فإن حالت بينهما شجرةٌ أو جِدَارٌ أو حجرٌ، ثم لَقِيَهُ، فليُسَلِّم عليه" أخرجه البخاري في "الأدب المفرد"، وأبو داود في "سننه"، والبيهقي في "شعب الإيمان".

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: "أَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ كَانُوا يَكُونُونَ مُجْتَمِعِينَ، فَتَسْتَقْبِلُهُمُ الشَّجَرَةُ، فَتَنْطَلِقُ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ عَنْ يَمِينِهَا وَطَائِفَةٌ عَنْ شِمَالِهَا، فَإِذَا الْتَقَوْا سَلَّمَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ" أخرجه البخاري في "الأدب المفرد"، والطحاوي في "شرح مشكل الآثار"، وابن السُّني في "عمل اليوم والليلة"، والبيهقي في "شعب الإيمان".

قال الإمام النووي في "الأذكار": (ص: 249، ط. دار الفكر): [إذا سَلَّم عليه إنسانٌ ثم لقيه على قرب: يُسنّ له أن يُسلِّم عليه ثانيًا وثالثًا وأكثر؛ اتفق عليه أصحابنا] اهـ.

 

الدليل على أن المصافحة من تمام التحية والسلام للمصلي


من تمام السلام والتحية الأخذ باليد والمصافحة:

فعَنِ ابن مسعود رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «من تمام التَّحِيَّةِ الأخذ باليد» أخرجه الترمذي في "سننه"، والبيهقي في "شعب الإيمان".

وعن أبي أمامة رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «وتمام تَحِيَّتِكُمْ بَيْنَكُم المُصَافَحَةُ» أخرجه الترمذي في "السنن"، والشجري في "الأمالي".

والمسلم وهو في صلاته في حال غيابٍ وانقطاعٍ عمن حوله، فإذا سلَّم منها كان حالُهُ مع من يجاوره حالَ لقاء؛ فيُسَنُّ له أن يبدأه بالسلام، ولذا نص الفقهاء على أن يشمل المصلي بنيته في التسليم مِن الصلاة مَن يجاوره مِن المصلين، وأن سلامَهُ عليهم ومصافحتَهُ لهم بعد الخروج من الصلاة تطبيقٌ لما اشتمَلَت عليه نِيَّتُهُ في تسلميه منها.

قال الإمام محمد بن الحسن الشيباني في "المبسوط" (1/ 10، ط. إدارة القرآن والعلوم الإسلامية): [قلت: وكيف يسلم الرجل إذا فرغ من صلاته؟ قال: يقول: السلام عليكم ورحمة الله عن يمينه، وعن يساره مثل ذلك، وينوي بالتسليم الأول مَن كان عن يمينه مِن الحَفَظَةِ والرجال والنساء في التسليمة الأولى، وعن يساره مثل ذلك] اهـ.

وقال العلامة فخر الدين الزيلعي في "تبيين الحقائق" (1/ 126، ط. الأميرية): [وأما النية: فينوي بكلِّ تسليمةٍ مَن في تلك الجهة من الرجال والنساء والحفظة الحاضرين الذين لهم شركة في صلاته؛ لأن الأعمال بالنيات، وهو لَمَّا اشتغل بمناجاة ربه صار بمنزلة الغائب عنهم، فيسلم عليهم عند التحلل؛ لأنه صار حاضرًا] اهـ.

فالمصلي حال سلامه يكون وكأنه لم يلقهم من قبل؛ لوجود الغيبة الحكمية عنهم، كما تبين من أقوال السادة الفقهاء، والأمر بالمصافحة متسع فيشمل حال الاستقبال بعد الغيبة حقيقةً أو حكمًا؛ مما يجعل استقبال المسلم لأخيه بعد الصلاة أصلًا في استحباب المصافحة بينهما:

فعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَا مِنْ عَبْدَيْنِ مُتَحَابَّيْنِ فِي اللهِ، يَسْتَقْبِلُ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فَيُصَافِحُهُ وَيُصَلِّيَانِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، إِلَّا لَمْ يَفْتَرِقَا حَتَّى تُغْفَرَ ذُنُوبُهُمَا مَا تَقَدَّمَ مِنْهُمَا وَمَا تَأَخَّرَ» أخرجه أبو يعلى الموصلي في "المسند"، وابن السني في "عمل اليوم والليلة"، والبيهقي في "شعب الإيمان"، والشجري في "ترتيب الأمالي".

قال العلامة ابن الحسن الكوراني في "رفع الريب والالتباس عن دليل الدعاء والمصافحة بعد الصلاة للناس" (ص: 66، ط. دار الصالح): [إنما ذكر فيه الاستقبال، وهو صادقٌ باستقبالٍ بعد الغيبة الحكمية، كما أنه صادقٌ باستقبالٍ بعد الغيبة الحسية؛ لأن المصلين كلهم مستقبلين إلى القبلة، لا بعضهم إلى بعض غالبًا، فإذا فرغوا من الصلاة واستقبل البعض إلى البعض، جاء وقت المصافحة، فجاز أن يكون هذا قرينة على عموم الالتقاء للحكمي والحسي] اهـ.

 

فك التعارض بين المصافحة وأذكار ختام الصلاة


لا يقال بأن في المصافحة شغلًا للمصلي عن الأذكار التي تقال بعد الصلاة، فإنَّ ذلك مردود بأنَّ كِلَا الأمرين مندوبٌ إليه ولا تعارض بينهما البتة، وإن استلزم ذلك ترتيبًا فالبدء بالمصافحة أَوْلَى؛ لما سبق بيانه مَن أن نية المصلي في تسليمه من الصلاة تشمل مَن بجانبه مِن المصلين، وأن المصافحةَ تطبيقٌ لما اشتملت عليه نيته هذه، وهي مقيدة بأول اللقاء؛ فكان البدء بها هو المقدم على تلك الأذكار؛ لأن في وقتها سَعَة، حتى لو قالها بعد خروجه من المسجد، أو بعد فاصل لا يُعَدُّ طويلًا عرفًا: فقد أصاب السُّنَّة.

قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" (2/ 328): [الذكر المذكور يقال عند الفراغ من الصلاة، فلو تأخر ذلك عن الفراغ؛ فإن كان يسيرًا بحيث لا يُعَدُّ مُعرِضًا أو كان ناسيًا أو متشاغلًا بما وَرَدَ أيضًا بعد الصلاة كآية الكرسي: فلا يضر] اهـ.

وقال العلامة البهوتي في "كشاف القناع" (1/ 365، ط. دار الكتب العلمية): [يُسَنُّ ذكر الله والدعاء والاستغفار عقب الصلاة المكتوبة كما ورد في الأخبار على ما ستقف عليه مُفَصَّلًا. قال ابن نصر الله في الشرح: والظاهر أن مرادهما أن يقول ذلك وهو قاعد، ولو قاله بعد قيامه وفي ذهابه فالظاهر أنه مُصِيبٌ للسنة أيضًا؛ إذ لا تحجير في ذلك، ولو شُغِل عن ذلك ثم تذكَّره فذكَرَهُ فالظاهر حصول أجره الخاص له أيضًا إذا كان قريبًا لعذر] اهـ.

وقد كان من فعله صلى الله عليه وآله وسلم أن يُقْبِل بوجهه الشريف على أصحابه رضوان الله عليهم بعد صلاته مباشرة، وقبل ما كان يقوله من الدعاء صلى الله عليه وآله وسلم:

فعن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما قال: "صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأصحابه صلاة الصبح، ثم أقبل على أصحابه بوجهه" أخرجه ابن أبي عاصم في "السنة"، وابن أبي حاتم في "العلل"، وأبو موسى الأصبهاني في "اللطائف من دقائق المعاني".

قال العلامة المناوي في "فيض القدير" (1/ 395، ط. المكتبة التجارية): [فقد ورد أنه كان إذا صلى أقبل على أصحابه، فيُحمل ما ورد من الدعاء بعد الصلاة على أنه كان يقوله بعد أن يقبل بوجهه على أصحابه؛ فلا تدافع] اهـ.

 

قبول الدعاء واستجابته عند المصافحة


ممَّا يدلّ أيضًا على مشروعيتها أنَّه قد جاء في الحديث الشريف فضل الدعاء، وأن المصافحةَ سببٌ للاستجابة والقبول: فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «ما من مسْلِمَيْنِ التقيا فأَخذ أحدهما بيد صاحبه، إِلَّا كان حقًّا على الله أنْ يحضر دعاءهما، ولا يَرُدَّ أيديهما حتى يغفر لهما» أخرجه أحمد والبزار وأبو يعلى في "مسانيدهم"، والضياء المقدسي في "الأحاديث المختارة".

وقال العلامة الخطيب الشربيني في "مغني المحتاج" (6/ 18، ط. دار الكتب العلمية): [وتندب المصافحةُ مع بشاشةِ الوجهِ والدعاءِ بالمغفرةِ وغيرِها للتلاقي] اهـ.

دليل العرف والعادة في الجمع بين المصافحة والدعاء
هذا هو الحاصل في عرف الناس وعاداتهم؛ حيث يجمعون بين المصافحة والدعاء عقب الصلاة -بقول "حرمًا" و"جمعًا"، أو "تقبل الله" و"مِنَّا ومنكم"-، وهما أصلان جاء الشرع بهما وحث عليهما؛ لإشاعة الألفة والمودة بين المسلمين، علاوةً على استحباب اقترانهما كما سبق.

وهذا الأمر مِمَّا جرى عليه عمل المسلمين قديمًا وحديثًا؛ ويدل على ذلك ما ذكره الإمام ابن الحاج في "المدخل" (2/ 288، ط. دار التراث): [قال الشيخ الإمام أبو عبد الله بن النعمان رحمه الله: إنه أدرك بمدينة فاس -والعلماء العاملون بعلمهم بها متوافرون- أنهم كانوا إذا فرغوا من صلاة العيد صافح بعضهم بعضًا] اهـ.

وقال العلامة الكوراني في "رفع الرَّيْب والالتباس" (ص: 49) [فإن فعل ذلك ذائعٌ شائعٌ يفعله جَمٌّ غفيرٌ ممن يُقتَدَى بهم وغيرهم، لا سيما في الحرمين الشريفين زادهما الله شرفًا وتعظيمًا] اهـ.

وفي تحقيق لطيف فرق الإمام النووي بين المصافحة على مَن كان معه قبل الصلاة والمصافحة على مَن لم يلقه قبلها، حتى وصل إلى الإجماع على سُنِّيَتِها فيمن لم يلقه قبل الصلاة، وإباحتها فيمن كان معه قبل الصلاة؛ فقال في "المجموع شرح المهذب" (3/ 488): [والمختار أن يقال: إن صافح مَن كان معه قبل الصلاة فمباحة كما ذكرنا، وإن صافح مَن لم يكن معه قبل الصلاة عند اللقاء فسُنَّة بالإجماع؛ للأحاديث الصحيحة في ذلك] اهـ.
وبناءً على ما سبق: فإنَّ المصافحة مشروعة بأصلها في الشرع الشريف، وإيقاعُها عقب الصلاة داخلٌ في عموم هذه المشروعية؛ فهي مباحة أو مندوب إليها -على أحد قولَي العلماء، أو على التفصيل الوارد عن الإمام النووي في ذلك- مع ملاحظة أنها ليست من تمام الصلاة، وعلى مَن قلَّد القول بالكراهة أن يُراعيَ أدب الخلاف في هذه المسألة ويتجنب إثارة الفتنة وبَثَّ الفُرقة والشحناء بين المسلمين بامتناعه مِن مصافحة مَن مَدَّ إليه يده مِن المصلين عقب الصلاة.

الجريدة الرسمية