رئيس التحرير
عصام كامل

الكباري تطيح بالتاريخ والجغرافيا، الحكومة تزيل 2700 مقبرة لمشاهير مصر من أجل تنفيذ توسعات إنشائية، وهل ينجح مرشح مصر لليونسكو؟

إزالة مقابر، فيتو
إزالة مقابر، فيتو

غضب إلكتروني واسع، في مقابل صمت حكومي مريب إزاء عمليات إزالة موسعة لمئات المقابر الكائنة بمحيط  مسجد السيدة نفيسة، ومحيط مسجد الإمام الشافعي بمدينة القاهرة؛ بهدف إقامة توسعات إنشائية.


الغضب ناجم من أن هذه المقابر التي يُقدر عددها بـ2700 مقبرة، وربما تكون الحصيلة مرشحة للزيادة، تضم رفات لأكابر ونوابغ المصريين، من أهل السياسة والطب والفكر والأدب والدين، مثل: رب السيف والقلم الشاعر محمود سامي البارودي، وإمام الخطاطين عبد الله الزهدي، والأديب الأشهر يحيى حقي، والإمام "ورش"، وآخرين. 


كما كشفت حالة الغضب التي لم ينطفئ أوارُها بعد عن وعي كبير عند المصريين بتاريخ أبناء وطنهم الذين أسهموا في صناعة تاريخه وحضارته، ولم يستسلموا لأية مبررات واهية تحمل بين ثناياها كل عوامل الضعف.


ورغم التزام الحكومة والجهات الرسمية الصمت المريب إلا إن حالة الغضب والاستياء لا تزال مستمرة؛ لا سيما أنه كانت حلول عديدة غير هدم هذه المقابر وإزالتها وعدم احترام أصحابها، ولا يزال بعض المتفائلين يراودهم بصيص من الأمل بأن يحدث المستحيل وتتوقف عمليات الهدم، ويتم إنقاذ ما يمكن إنقاذه.

إزالة مقابر، فيتو


الغريب في الأمر أيضًا أن تلك المقابر -على تاريخيتها- تقع في حرم متحف الحضارة، وكان من الأفضل والأنسب أن يتم تطويرها وتجميلها وتحويلها إلى مزارات ومقاصد سياحية؛ بحيث تكون امتدادًا غير مباشر للمتحف، بدلًا من "تحزيمه" بالكباري.

ضريح محمود سامي البارودي من الداخل، فيتو


أما الأغرب..فهو أن عمليات الإزالة الموسعة لهذه المقابر تزامنت مع إعادة وتطوير مقابر اليهود بمنطقة البساتين القاهرية، وتم تداول صورها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وظهرت في صورة مخملية، وكأنها كومباوند سكني من الدرجة الأولى!

وزير الآثار، فيتو


والأشد غرابة أن وزارتي السياحة والآثار والثقافة وجهاز التنسيق الحضاري غائبان تمامًا عن المشهد، والحجة سابقة التجهيز لدي المسؤولين وهي أن هذه المدافن والمقابر ليست مسجلة كـ"آثار"، وتلك حُجة ساقطة ومطعون في صحتها ومردود عليها، كما سوف نبين لاحقًا.

 

تطوير وليس هدمًا!

الرد الرسمي الوحيد المتاح الذي صدر عن محافظة القاهرة، تلخص في أن هذه الإزالات تهدف إلى تطوير المنطقة التي تشمل خط "القلعة، السيدة نفيسة،والسيدة عائشة"، وما بها من مقابر، وأن العمل يجري ضمن مشروع القاهرة التاريخية والحفاظ على تراثها، وتطهيرها من العشوائية؛ حيث لم تخضع للتطوير منذ فترات طويلة.


وهذا الكلام أيضًا مردود عليه؛ لأن المنطقة المستهدفة بالتطوير تعتبر من أشهر أماكن القاهرة التاريخية؛ وكان ينبغي التعامل معها بحكمة وهدوء وتعقل؛ لا سيما أنها تضم رفات العديد من الرموز الدينية والسياسية والأدبية والتاريخية المصرية، فضلًا عن مقابر لمشايخ وعلماء وأمراء ومماليك وبكوات وباشوات عصر محمد على، ومقبرة حوش الباشا، وهي مسجلة ضمن قوائم الآثار، كما سوف تبين الصور المرفقة الطبيعية التاريخية والفنية النادرة للمقابر المستهدفة.

 

كوبري فوق قبر طه حسين

وانطلقت الأزمة مع الأنباء التي ترددت عن إزالة مقبرة عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين 1889-1973 الذي ساقه حظه العثر للوقوع أمام كوبري "ياسر رزق"، وبعد إثارة الموضوع على نطاق محلي وخارجي وتلويح أسرته بنقل رفاته إلى فرنسا، وبعد مناورات من وزارة التنمية المحلية، تم الإبقاء على القبر، ولكن مر من فوقه الكوبري في مشهد ميلودرامي لا يزال يثير الجدل والسخرية حتى الآن.

قبر طه حسين، فيتو


مدفن الشيخ محمد رفعت في مهب الريح

قبر الشيخ محمد رفعت، فيتو

وما إن انطفأت أزمة قبر "طه حسين"، حتى انطلقت أزمة جديدة تتعلق بإزالة مقبرة القاريء الشيخ محمد رفعت 1882-1950 الذي يتعلق المصريون حتى الآن بتلاواته القرآنية وبأذانه، رغم رحيله قبل 73 عامًا. وتحت وطأة الغضب تم التحايل مؤقتًا ولم تتم إزالة المدفن، مع توقعات بإزالته في القريب العاجل.

 

وقبل أيام ضجَّت مواقع التواصل الاجتماعي  بأنباء عن إزالة قبر الإمام "وَرش"، صاحب رواية "ورش" عن الإمام نافع المدني لقراءة القرآن الكريم التي كانت هي القراءة الرسمية للقرآن الكريم عند المصريين، قبل أن يستبدلها العثمانيون برواية "حفص عن عاصم".

 

والإمام "ورش" اسمه: أبو سعيد عثمان بن سعيد بن عبد الله بن عمرو بن سليمان، ولد في صعيد مصر  في العام 110 هجريًا، ورحل إلى شيخه الإمام نافع بن عبد الرحمن أبي نعيم تلميذ الإمام مالك في المدينة المنورة؛ ليتلقى عنه قراءة القرآن وختم عليه القرآن الكريم عدة مرات، وعاد إلى مصر، وانتهت إليه رئاسة الإقراء بالديار المصرية في زمانه، حتى توفي العام 197 هجريًا، ودفن في مقبرة القرافة الصغرى.
 

قبر الإمام ورش، فيتو

نقل رفات يحيى حقي

في وقت سابق..أعلنت الكاتبة نهى حقي، أن رفات والدها الأديب الكبير يحيى حقي 1905-1992 نُقل من مدفنه بجوار السيدة نفيسة؛ حيث دُفن بناء على وصيته، إلى مقبرة في منطقة العاشر من رمضان، بعدما تلقت إخطارًا من الجهة المختصة بذلك، ولم يكن إمامها سوى الاستسلام والتنفيذ الفوري.


ورثة شاعر النيل حافظ إبراهيم 1872-1932 أيضًا أعلنوا أنه لم يتم إخطارهم بشكل رسمي بإزالة مقبرته، ولكن حارس الجبّانة هو مَن أخبرهم، والأمر نفسه يمتد إلى مدفن رب السيف والقلم الشاعر محمود سامي البارودي 1838-1904، فضلًا عن مقبرة إمام الخطاطين عبد الله الزهدي 1836-1879.

 

قرافة القاهرة أقدم من القاهرة نفسها!

الباحث في الآثار المصرية محمود مرزوق  قال في تصريحات صحفية لموقع بي بي سي: "الاعتداء على المقابر ليس أمرًا جديدًا في مصر، لكن الوضع الحالي أصعب من ذي قبل؛ خصوصًا أنه غير معروف الأبعاد؛ في ظل عدم إفصاح الحكومة عن مخططاتها وعدم استعدادها لإدارة حوار مجتمعي تحت وطأة استعجالها في إنجاز مشروعات".

 

"مرزوق" نوَّه في تصريحاته إلى أن "قرافة القاهرة" أقدم تاريخيًا من مدينة القاهرة نفسها؛ حيث إن القرافة بدأت مع دفن أول مسلم في مصر، وكان ذلك تحت سفح المقطم في صدر الإسلام، أي قبل بناء مدينة القاهرة بزمن طويل.

أحد المقابر المهددة بالإزالة من الداخل، فيتو
قانون حماية الآثار، فيتو

الباحث لفت إلى أنه على مدى مئات السنين، اتسع نطاق قرافة القاهرة التي تتصل جغرافيًا رغم تقسيمها إلى مجموعات، كلّ منها يرتبط باسم عَلم من الأعلام، مثل: قرافة الإمام الشافعي، وقرافة الليث؛ نسبة إلى الإمام الليث بن سعد، وقرافة سيدي جلال نسبة إلى جلال الدين السيوطي وهكذا، مشددًا على أن كل حجر فيها يكتب سطرًا من تاريخ مدينة عريقة عمرها فاق الألف عام ومن تاريخ مصر بشكل عام.

تحتج الحكومة بأن هذه المقابر لم يتم تصنيفها "أثرية"، ما تراه مبررًا لإطفاء نار الغضب، وهو ما يفتح الباب أمام التساؤل: "هل الشيء القيّم هو ذلك المسجَّل على أنه أثر فقط؟ أم أن مفهوم القيمة مختلف"؟


وهنا يجيب الباحث: "مفهوم القيمة متسع جدًا ومتنوع؛ فهناك قيمة اقتصادية وقيمة تراثية وقيمة تاريخية وقيمة فنية، وهكذا فالقيَم نفسها متعددة"، مشددًا على أن "قِدم وجود القرافة -في حد ذاته- يُضفي عليها قيمة توجب الحفاظ عليها، فضلًا عن كونها جزءًا من ذاكرة مدينة القاهرة ومن تاريخ المصريين"، ومُحذرًا من أن هدمها يُعتبر بمثابة "قَطع صفحة مهمة من تاريخ تلك الأمة".

 

احتجاج برلماني على استحياء

رغم أهمية هذه  القضية إلا إنها لم تلق اهتمامًا واسعًا داخل البرلمان المصري بغرفتيه: "النواب" و"الشيوخ"، باستثناء طلب إحاطة قدمته النائبة مها عبد الناصر، عضو مجلس النواب عن الحزب المصري الديمُقراطي، ووجهته إلى كل من: رئيس مجلس الوزراء، وزيرة الثقافة، وزير النقل، ووزير التنمية المحلية "بصفاتهم"، وذلك بشأن: إقدام محافظة القاهرة على هدم وإزالة مقبرة شاعر النيل "حافظ إبراهيم ".


"عبد الناصر" قالت: "تابعنا على مدار الساعات القليلة الماضية بكل أسف الاستغاثات العاجلة التي أطلقتها عائلة شاعر النيل حافظ إبراهيم، فيما يتعلق بإقدام محافظة القاهرة على إزالة المقبرة الخاصة به والكائنة بجبَانات منطقة السيدة نفيسة بمحافظة القاهرة؛ من أجل تطوير بعض خطوط وطرق القاهرة وإعادة استخدام تلك الأراضي بعد الإزالة ضمن خطة تطوير القاهرة وفق ما هو مُعلن".


النائبة أردفت بحسب تقرير نشرته "فيتو": "تلك المقبرة يعود تاريخ بنائها إلى ذات تاريخ وفاة حافظ إبراهيم عام 1932، حيث أمر آنذاك الملك فؤاد ببنائها فورًا؛ تكريمًا وتخليدًا للخدمات الوطنية الجليلة التي قدمها شاعر النيل لمصر سواء على الصعيد الأدبي والثقافي، أو على صعيد دعم مقاومة الإحتلال الإنجليزي وقتما كان ظابطًا مهندس بالجيش المصري وقتها، إلا أننا نجد أن كل تلك الاعتبارات الأدبية والثقافية والتراثية لم تجد لخاطر الجهات التنفيذية سبيلًا".


وشددت النائبة على أن "الحفاظ على التراث والهوية الثقافية وتخليد وتعظيم الإرث الأدبي لرموز مصر يجب أن يكون من الأركان الأصيلة للمنفعة والمصلحة العامة، وهو الأمر الذي لا نرى أن الحكومة تستطيع استيعابه أو تقديره بأي شكل من الأشكال".


النائبة دعت الحكومة في ختام طلب الإحاطة إلى "الوقف الفوري لأي قرار يخص هدم مقبرة حافظ إبراهيم أو أي مقبرة تمثل قيمة تراثية أو حضارية أو ثقافية لأي سبب كان، كما طالبت الجهات المعنية أيضًا بإعادة دراسة تلك القرارات ووضع الاعتبارات السالف ذكرها بعين الإعتبار قبل تنفيذ أي إجراء على أرض الواقع، مع عرض تلك الدراسات والقرارات على البرلمان الموقر لإبداء الرأي فيها؛ نظرًا لإتصالها بشكل مباشر بالتراث الثقافي والأدبي للدولة المصرية والذي لا نقبل المساس به بأي شكل من الأشكال لا حاليًا ولا مستقبلًا تحت أي سبب من الأسباب".


ويبدو أن طلب الإحاطة لم يجد صدى وتم حفظه، حيث لم تتوقف عمليات الهدم والإزالة لحظة واحدة.

اقرأ أيضا:

المقابر التراثية، طلب إحاطة بشأن إزالة أجزاء من المقابر التاريخية
 

مها عبد الناصر، فيتو

حلم اليونسكو يصطدم بإزالة مقابر القاهرة التاريخية

في أبريل الماضي..أعلنت الحكومة، عن ترشيح الدكتور  خالد العناني، وزير السياحة والآثار السابق، لمنصب مدير عام اليونسكو، في الفترة ما بين 2025 إلى 2029.


وتُعنى منظمة اليونسكو بالتربية والعلوم والثقافة، وهو ما يطرح سؤالًا مهمًا هنا وهو: كيف تسعى الحكومة إلى اقتناص هذا المنصب الأممي البارز وتخطط للحصول عليه، في الوقت الذي تهدم فيه هذا العدد من المقابر التاريخية والأثرية حتى وإن لم يتم تسجيلها رسميًا؟


في العام 1979..سجّلت منظمة "اليونسكو" منطقة القاهرة التاريخية موقعَ تراثٍ عالميًّا، ولكن في السنوات الأخيرة، وقبل عمليات الإزالة الأخيرة.. كررّت شكواها من الإهمال الذي تتعرض له المنطقة، مهددة بشطبها من قائمة التراث العالمي، وبنقلها لقائمة التراث المُعرّض للخطر، وها هو غادر منطقة "التعرض للخطر" إلى الوقوع في قبضة الخطر فعلًا!

 

نقدم لكم من خلال موقع (فيتو) ، تغطية ورصد مستمر علي مدار الـ 24 ساعة لـ أسعار الذهب، أسعار اللحوم ، أسعار الدولار ، أسعار اليورو ، أسعار العملات ، أخبار الرياضة ، أخبار مصر، أخبار اقتصاد ، أخبار المحافظات ، أخبار السياسة، أخبار الحوادث، ويقوم فريقنا بمتابعة حصرية لجميع الدوريات العالمية مثل الدوري الإنجليزي ، الدوري الإيطالي ، الدوري المصري، دوري أبطال أوروبا ، دوري أبطال أفريقيا ، دوري أبطال آسيا ، والأحداث الهامة و السياسة الخارجية والداخلية بالإضافة للنقل الحصري لـ أخبار الفن والعديد من الأنشطة الثقافية والأدبية.

الجريدة الرسمية