ساعات فى صحبة الشهداء
كانت الساعة السابعة صباحا عندما ولجت من باب المركز الطبى العسكري بكوبرى القبة، توجهت إلى ثلاجة حفظ الموتى لمرافقة جثمان الشهيد محمد وحيد عبدالخالق ضحية رصاصات الغدر والإرهاب الذي مارسته وتمارسه الجماعات الإرهابية في سيناء، والذي استشهد بطلق ناري بالرقبة مع جندى آخر خلال الهجوم على نقطة حرس حدود الشلاق بشمال سيناء.. كانت المقاعد المتناثرة بالحديقة حول ثلاجة الموتى الملاصقة لمسجد المستشفى قد امتلأت بالعديد من مواطنين يرتدون الجلابيب، فهم أهل الجندى الشهيد عباس رفعت البيلى الذي قتل بطلق ناري بالوجه، على يد الجهاديين التكفيريين المتوغلين بسيناء كان في الكمين وقت تنفيذ العملية الإرهابية.
كانت الوجوه شاحبة، فلم تنم ليلتها والقلوب موجوعة ومقل العيون حمراء محتقنة بفعل البكاء.
كان من بينهم رجل ممتلئ قليلا في الخمسينيات من عمره قمحى اللون يرتدى جلبابا رمادي، تتدلى لحيته كان أكثرهم تماسكا عندما رآنى ظن أننى من المسئولين بالمستشفى، قال أنا من الرابعة فجرا أنتظر جثمان ابنى الشهيد أكمل دون أن يترك فاصلا للتدخل في حديثه، بصراحة الجيش أنهى الإجراءات كلها وتصريح الدفن لكنهم قالوا سوف نكون موجودين الساعة السابعة وظل مسترسلا.. أنا من دمياط من الزرقا وعاوزين نلحق صلاة الجمعة هناك البلد كلها واقفة على الطريق لم تنم ليلتها.
قاطعته، إن شاء الله أنا مثلك جئت لأرافق جثمان الشهيد محمد وحيد.. قاطعنى الضابط ـ قلت نعم ـ قال كان مع ابنى واستشهدوا معا.. ملعون الإرهاب والإرهابيين.. منهم لله ناس بلا دين ولا قلب ولا رحمة.. عباس ابنى عمره 20 سنة كان بيكلمنى عن هؤلاء الإرهابيين عندما سبق وهاجموهم وهم في الخدمة ويقول يابا الإرهابيين مدربين جامد قوى يظهروا ويضربوا ثم يختفوا بسرعة. فجأة انخلع من مقعده مرددا يا ضنايا يابنى، خرجت كنيران منطلقة من جوفه وكأنه كان في غفوة آنسته فاجعته في فقدان ولده وفلذة كبده.. لم أتركه ولكن سألته وأنا أسير بجواره لا تجزع من قدر الله، ابنك شهيد اشكر الله أنه سوف يخلد في الجنة.
رفع يده للسماء وناشد الله داعيا، يا رب عليك بالظالمين المجرمين عليك بقتلة ابنى يارب.. ثم أكمل أنا رغم فقدانى لابنى لكن لازم الجيش يخلصنا من كابوس الإرهاب أنا مش عاوز حد يموت هناك تانى.. لازم الجيش يخلصنا منهم كلهم علشان من هم مثل ابنى ميهدرش دمهم على يد الإرهابيين.. كانت لحظات ثم جاء العميد خالد نائب مدير المركز الطبى ليتعجل قدوم القوة التي سوف ترافق الجثمانين إلى بلديهما لتتم إجراءات الدفن.
بعدها بدقائق، كانت سيارات نقل الموتى وأتوبيسات محملة بقوة من الضباط والجنود لتأمين وصول جثمانى الشهيدين إلى بلديهما بكفر الشيخ ودمياط..
في الطريق إلى كفر الشيخ، وتحديدا إلى قرية الغنايمة التابعة لمركز سيدى سالم كانت الساعة قد تجاوزت الثانية عشرة بقليل كان أذان الجمعة يغزو الفضاء بنداء الله أكبر الله أكبر.. كان هناك وعلى بعد أكثر من كيلومتر حشود من البشر رجال وشباب أطفال ونساء في استقبال الشهيد ملازم أول محمد وحيد تعانقت كلمات خطبة الجمعة الرنانة بعنان السماء بينما نداءات الله أكبر ولا إله إلا الله بنواح الأم والأخوات بينما والده معلم الأجيال كان في حالة انهيار وكل مطلبه هو والأم أن يريا وجه ابنهما الشهيد المكفن بدمائه فهى الشاهد له يوم القيامة..
زحفت الحشود حاملة نعشه فوق أكتاف الجنود في جنازة عسكرية شعبية مهيبة تتدافع فيها المناكب بينما تتصاعد ذرات الأتربة من جانبى الطريق لتضفى على الجنازة كثيرا من المهابة بينما أسطح ونوافذ البيوت قد انبثقت منها رءوس النساء وهن يصحن يرددن هتاف لا إله إلا الله الشهيد حبيب الله.. انتهت الصلاة وسارت الجنازة في طريقها وسط الحشود البشرية إلى المقابر التي تبعد أكثر من 1500 متر عن القرية ليوارى الثرى جثمانه الطاهر.
كيف لمن يرفع سلاحا ليسفك به دماء المصريين والتي تسال يوميا للعديد من الشباب على يد الإرهاب وبفتاوى ممن يدعون العلم وهم إلى الجهل أقرب؟.. إنها الفتن التي تنطلق كقطع الليل الأسود.. فتن تسيل دماء المصريين بها في الميادين والشوارع.. تسيل في سيناء وكأن لم يكن كافيا استشهاد أكثر من 120 ألف شهيد في حروب ثلاثة لتمثل الحرب على الإرهاب الذي زرع بين ليلة وضحاها لتصبح الحرب الرابعة ويصبح فيها الإرهاب هو العدو الذي لابد من محاربته.. الغريب أن الدماء التي تسيل هي لشباب في عمر الزهور يتم الزج والدفع بهم بموجب فتاوى كلها تبشر بالجنة لمن يُقتل وكأن القتل هو الطريق إلى الجنة.. وكأننا نقتل أعداء الدين والوطن.. لعن الله الجهل عندما يعيش في جلباب مدعى العلم!