الانفصام النكد
هناك مثل يقول: أسمع كلامك أصدقك، أشوف أمورك أستعجب"، وهذا المثل ينطبق بحذافيره على رجالات السياسة فى مصر فيما بعد ثورة يناير، حيث تجد الهوة واسعة للغاية بين القول والفعل، ليس عن قصور فى التعبير ولا عن عجز عن الفعل، وإنما عن رغبة دفينة فى عدم الكشف عن النية والاتجاه، فتجده يلف ويدور عند الكلام دون أن يصيب المقصود ويستخفى فى حركاته وسكناته عند الفعل، من أجل ذلك فإننا نهدر الكثير من الوقت والجهد دون الوصول إلى المطلوب، وإذا وصلنا فبعد جهد جهيد، ولا شك أننا نفقد طوال هذا الطريــق كما قلت الوقت والجهد والمال، فالوقت فاقد من العمر الإنتاجى للبشر يزيد التكلفة، ويؤدى فقده إلى سعة فى الهوة الفاصلة بيننا وبين الغير المنافس فى درب الحضارة والرقى.. ولا شك أيضا أننا نبذل مجهوداً نفسياً وفكرياً مرهقاً أثناء عملية اللف والدوران، والاستخفاء الذى نمارسه مع بعضنا البعض دون إنجاز حقيقى على الأرض، وهذا المجهود هو استنفاد للطاقة النفسية والفكرية والبدنية للإنسان دون طائل.. ولا شك أن كل ذلك يمثل فقداً حقيقياً فى الأموال لأن أحد الموارد الاقتصادية قد جرى تعطيله فى مثل هذه الأمور، وهو المورد الذى لو تعطل لتعطلت به باقى الموارد. فمع ثورة يناير طفحت كل ألوان وصور الأمراض النفسية على السطح وفعلت فعلها فى الشارع السياسى على نحو بغيض فى لحظات الانفجار الثورى انصهر الكل فى واحد، كل ألوان الطيف المصرى نسجت خيوطها فى الميادين معلنة عن بزوغ فجر جديد، فجر الحرية والانعتاق، وتناغمت الأصوات عازفة أروع سيمفونية تطالب الديكتاتور بالرحيل، إيذاناً بسقوطه وتهدم أركان نظامه. لحظات توافق نادرة، وحالة تزاوج فارقة بين القول والفعل، فكان الفعل الثورى مزلزلاً ولو استمر كذلك لكان الحال غير الحال والوضع غير الوضع. وأسوأ ما فى هذا الأمر فى الحقيقة أننا عدنا سيرتنا الأولى بأسرع مما كنا نتــوقــــع. وقد كانت صدمة فى الحقيقة لقطــاع عــريض من الشعب المصرى فيما عرف اصطلاحاً بتيار الإسلام السياسى . فقد توقع الناس من خلال التيارات الإسلامية التخلص من هـــذا المرض العضال. مرض الانفصام النكد بين القول والفعل، وكأن هذا الفصام هو الوضع الطبيعى للأمور، القول فى اتجاه والفعل فى اتجاه آخر. إلا أن الناس تفاجأت بأمر آخر حيث تبين لهم من خلال الممارسة الفعلية على الأرض أن أصحاب الاتجاه الإسلامى يعانون من ذات المرض العضال. قد يرجع ذلك إلى طبيعة العمل السرى الذى كانت تعيش فيه هذه الجماعات، حيث إنها كانت تمارس أنشــطـتـها وحياتها تحت وطأة القهر والمطاردة على نحو سرى وعلى مدار سنوات طوال . ومعنى العمل السرى ببساطة أن المعلن لدى الشخص هو عكس ما يبطن، وأن أنشطته تتم تحت جنح الظلام مع الإحساس الدائم بأن هناك عينا ترقبه، لا شك أن هذا الوضع هو وضع غير طبيعى وتتولد عنه مشاكل نفسية جمة تكون غالباً فى حاجة إلى علاج فى مصحات نفسية ، لأن الوضع المرتبك لمن يجد نفسه فجأة تحت الضوء بعد سنوات من العمل تحت جنح الظلام، ستتولد عنه مشاكل نفسية إضافية فضلا عن الكوارث السلوكية التى يحدثها هذا الأثر، فإذا قفز إنسان عاش تلك الظروف إلى صدارة المشهد السياسى فكيف تكون النتائج؟! أترك الإجابة للقارئ الكريم.