رئيس التحرير
عصام كامل

العهدة‭ ‬العمرية.. حكاية‭ ‬أول‭ ‬وثيقة‭ ‬للتعايش‭ ‬في‭ ‬القدس.. كواليس‭ ‬الرحلة‭ ‬الخالدة‭ ‬للفاروق‭  ‬عمر‭ ‬بن‭ ‬الخطاب‭ ‬إلى‭ ‬أرض‭ ‬المقدس‭.. ‬ ولماذا‭ ‬رفض‭ ‬الصلاة‭ ‬في‭ ‬الكنيسة

 العهدة‭ ‬العمرية،فيتو
العهدة‭ ‬العمرية،فيتو

فتح‭ ‬المسلمين‭ ‬لبيت‭ ‬المقدس‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬حدثا‭ ‬عاديا‭ ‬كغيره‭ ‬من‭ ‬سائر‭ ‬الفتوحات،‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬حدثا‭ ‬فريدا‭ ‬من‭ ‬نوعه‭ ‬وكانت‭ ‬مشاهده‭ ‬شديدة‭ ‬الإثارة‭ ‬وكان‭ ‬بطلها‭ ‬الفاروق‭ ‬عمر‭ ‬بن‭ ‬الخطاب‭ ‬رضى‭ ‬الله‭ ‬عنه،‭ ‬ففي‭ ‬عام‭ ‬15‭ ‬هجرية‭ ‬أرسلَ‭ ‬الفاروق‭ ‬عمر‭ ‬قادة‭ ‬الجيوش‭ ‬الإسلامية‭ ‬إلى‭ ‬حاكم‭ ‬القدس‭ ‬ليسلمهم‭ ‬مفاتيح‭ ‬مدينة‭ ‬الأقصى،‭  ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أراد‭ ‬السلم،‭ ‬فأبى‭ ‬حاكمها‭ ‬البطريرك‭ ‬صفرونيوس‭ ‬أن‭ ‬يسلم‭ ‬المفاتيح‭ ‬لأي‭ ‬من‭ ‬القادة‭ ‬«‬عمرو‭ ‬بن‭ ‬العاص،‭ ‬أو‭ ‬شرحبيل‭ ‬بن‭ ‬حسنة،‭ ‬أو‭ ‬أبا‭ ‬عبيدة‭ ‬عامر‭ ‬بن‭ ‬الجراح‭ ‬‮«‬،حيث‭ ‬فصل‭ ‬البطريرك‭ ‬ما‭ ‬أجمله‭ ‬للصحابة‭ ‬الثلاثة‭ ‬قائلا‭: ‬لقد‭ ‬قرأنا‭ ‬فى‭ ‬كتبنا‭ ‬أوصافًا‭ ‬لمن‭ ‬يتسلم‭ ‬مفاتيح‭ ‬مدينة‭ ‬القدس،‭ ‬ولا‭ ‬نرى‭ ‬هذه‭ ‬الأوصاف‭ ‬فى‭ ‬أى‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬قادتكم،‭ ‬فأرسلوا‭ ‬إلى‭ ‬الخليفة‭ ‬عمر‭ ‬بن‭ ‬الخطاب رضى‭ ‬الله‭ ‬عنه‭ ‬وطلبوا‭ ‬منه‭ ‬الحضور‭ ‬ليتسلم‭ ‬المفاتيح‭ ‬بنفسه‭.‬

ومن‭ ‬جانبه‭ ‬استجاب‭ ‬الفاروق‭ ‬عمر‭ ‬بن‭ ‬الخطاب‭ ‬«‬رضى‭ ‬الله‭ ‬عنه‮»‬ ‬للدعوة‭ ‬وحضر‭ ‬برفقة‭ ‬غلامه،‭ ‬وكانا‭ ‬يتناوبان‭ ‬على‭ ‬ركوب‭ ‬الدابة‭ ‬ويتركانها‭ ‬ترتاح‭ ‬مرة،‭ ‬وصمم‭ ‬أميرالمؤمنين‭ ‬على‭ ‬المضى‭ ‬قدما‭ ‬على‭ ‬حاله‭ ‬وسار‭ ‬الغلام،‭ ‬ثم‭ ‬تناوب‭ ‬معه‭ ‬حتى‭ ‬قال‭ ‬أمراء‭ ‬وقادة‭ ‬الجند،‭ ‬نتمنى‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬نوبة‭ ‬عمر‭ ‬على‭ ‬الدابة‭ ‬حينَ‭ ‬يدخل‭ ‬على‭ ‬حاكم‭ ‬القدس،‭ ‬ونخشى‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬نوبة‭ ‬الغلام،‭ ‬فحصل‭ ‬ما‭ ‬كانوا‭ ‬يحذرون،‭ ‬ودخل‭ ‬الغلام‭ ‬راكبًا‭ ‬وأمير‭ ‬المؤمنين‭ ‬يمشى‭ ‬على‭ ‬قدميه،‭ ‬وهنا‭ ‬تدخل‭ ‬الصحابى‭ ‬الجليل‭ ‬أبو‭ ‬عُبيدة‭ ‬عامر‭ ‬بن‭ ‬الجراح‭ ‬خاطب‭ ‬الفاروق‭ ‬رضى‭ ‬الله‭ ‬عنه‭ ‬قائلا‭: ‬أتخوض‭ ‬الطينَ‭ ‬بقدميك‭ ‬يا‭ ‬أمير‭ ‬المؤمنين‭ ‬وتلبس‭ ‬هذه‭ ‬المُرقعة‭ ‬وهؤلاء‭ ‬القوم‭ ‬قياصرة‭ ‬وملوك‭ ‬ويحبون‭ ‬المظاهر،‭ ‬وأنت‭ ‬أمير‭ ‬المؤمنين‭ ‬فهلا‭ ‬غيرت‭ ‬ثيابك‭ ‬وغسلت‭ ‬قدميك؟؟‭ ‬وهذا‭ ‬مقام‭ ‬عزة‭ ‬وتشريف‭ ‬للمسلمين‭ ‬بتسلم‭ ‬مفاتيح‭ ‬القدس،‭ ‬ولم‭ ‬يلقى‭ ‬سيدنا‭ ‬عمر‭ ‬بن‭ ‬الخطاب‭ ‬بالا‭ ‬بما‭ ‬قاله‭ ‬أمين‭ ‬الأمة‭ ‬بل‭ ‬رد‭ ‬عليه‭ ‬بشى‭ ‬من‭ ‬الحدة‭ ‬وقليل‭ ‬من‭ ‬التهديد‭: ‬لقد‭ ‬كنا‭ ‬أذلاء‭ ‬فأعزنا‭ ‬الله‭ ‬بالإسلام،‭ ‬فإذا‭ ‬ابتغينا‭ ‬العزة‭ ‬بغيره‭ ‬أذلنا‭ ‬الله،‭ ‬والله‭ ‬لو‭ ‬قالها‭ ‬أحد‭ ‬غيرك‭ ‬يا‭ ‬أبا‭ ‬عُبيدة‭ ‬لعلوت‭ ‬رأسه‭ ‬بهذه‭ ‬الدِّرة،‭ ‬وفى‭ ‬13‭ ‬رمضان‭ ‬15هـ‭ ‬الموافق‭ ‬18‭ ‬أكتوبر‭ ‬636م،‭ ‬وصل‭ ‬عمر‭ ‬أبواب‭ ‬القدس،‭ ‬ولما‭ ‬وصلوا‭ ‬نظر‭ ‬صفرونيوس‭ ‬إلى‭ ‬عمر‭ ‬وثوبه‭ ‬وهو‭ ‬يقودُ‭ ‬الدابة‭ ‬لغلامه‭ ‬فسلمهُ‭ ‬مفاتيح‭ ‬القدس‭ ‬وقال‭ ‬له‭: ‬أنتَ‭ ‬الذى‭ ‬قرأنا‭ ‬أوصافه‭ ‬فى‭ ‬كتبنا‭ ‬يدخلُ‭ ‬ماشيًاوغلامهُ‭ ‬راكبًا‭ ‬وفى‭ ‬ثوبه‭ ‬سبعة‭ ‬عشرة‭ ‬رقعة‭.‬


العهدة‭ ‬العمرية

العهدة‭ ‬العمرية‭ ‬هى‭ ‬كتاب‭ ‬كتبه‭ ‬الخليفة‭ ‬عمر‭ ‬بن‭ ‬الخطاب‭ ‬لأهل‭ ‬إيلياء  ‬‮«‬القدس»‬‭ ‬عندما‭ ‬فتحها‭ ‬المسلمون‭ ‬عام‭ ‬638‭ ‬للميلاد،‭ ‬أمنهم‭ ‬فيه‭ ‬على‭ ‬كنائسهم‭ ‬وممتلكاتهم،‭ ‬وقد‭ ‬اعتبرت‭ ‬العهدة‭ ‬العمرية‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬الوثائق‭ ‬فى‭ ‬تاريخ‭ ‬القدس‭ ‬وفلسطين‭ ‬وأقدم‭ ‬الوثائق‭ ‬فى‭ ‬تنظيم‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬الأديان،‭ ‬وبعد‭ ‬دخول‭ ‬عمر‭ ‬بن‭ ‬الخطاب‭ ‬بيت‭ ‬المقدس‭ ‬وتسلم‭ ‬مفاتيحه‭ ‬وأعطى‭ ‬المسيحيين‭ ‬الأمان‭ ‬والحرية‭ ‬فى‭ ‬عبادتهم‭ ‬وشعائرهم‭ ‬الدينية،‭ ‬ثم‭ ‬حضر‭ ‬العوام‭ ‬والي‭ ‬القدس‭ ‬إلى‭ ‬الجابية‭ ‬واتفقا‭ ‬على‭ ‬صلح‭ ‬القدس،‭ ‬وكتب‭ ‬عمر‭ ‬بن‭ ‬الخطاب‭ ‬«‬العهدة‭ ‬العمرية»‬‭ ‬التى‭ ‬سطرها‭ ‬التاريخ‭ ‬بحروف‭ ‬من‭ ‬نور،‭ ‬وأجمع‭ ‬عليها‭ ‬صحابة‭ ‬رسول‭ ‬الله‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم،‭ ‬وهذا‭ ‬نصها‭:‬

‮«‬بسم‭ ‬الله‭ ‬الرحمن‭ ‬الرحيم؛‭ ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬أعطى‭ ‬عبد‭ ‬الله‭ ‬عمر‭ ‬أمير‭ ‬المؤمنين‭ ‬أهل‭ ‬إيلياء‭ ‬من‭ ‬الأمان‭ ‬أعطاهم‭ ‬أمانا‭ ‬لأنفسهم‭ ‬وأموالهم،‭ ‬ولكنائسهم‭ ‬وصلبانهم،‭ ‬وسقيمها‭ ‬وبريئها‭ ‬وسائر‭ ‬ملتها،‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬تسكن‭ ‬كنائسهم‭ ‬ولا‭ ‬تهدم،‭ ‬ولا‭ ‬ينتقص‭ ‬منها‭ ‬ولا‭ ‬من‭ ‬حيزها،‭ ‬ولا‭ ‬من‭ ‬صليبهم،‭ ‬ولا‭ ‬من‭ ‬شيء‭ ‬من‭ ‬أموالهم،‭ ‬ولا‭ ‬يُكرَهون‭ ‬على‭ ‬دينهم،‭ ‬ولا‭ ‬يُضَارّ‭ ‬أحدٌ‭ ‬منهم،‭ ‬ولا‭ ‬يسكن‭ ‬بإيلياء‭ ‬معهم‭ ‬أحد‭ ‬من‭ ‬اليهود،‭ (‬لأنهم‭ ‬كانوا‭ ‬يعادون‭ ‬اليهود‭ ‬عداءً‭ ‬حقيقيا‭)‬،‭ ‬وعلى‭ ‬أهل‭ ‬إيلياء‭ ‬أن‭ ‬يعطوا‭ ‬الجزية‭ ‬كما‭ ‬يعطى‭ ‬أهل‭ ‬المدائن،‭ ‬وعليهم‭ ‬أن‭ ‬يخرِجُوا‭ ‬منها‭ ‬الروم،‭ ‬ومن‭ ‬أحب‭ ‬من‭ ‬أهل‭ ‬إيلياء‭ ‬أن‭ ‬يسير‭ ‬بنفسه‭ ‬وماله‭ ‬مع‭ ‬الروم‭ ‬ويخلى‭ ‬بيعهم‭ ‬وصُلُبَهم‭ ‬فإنهم‭ ‬آمنون‭ ‬على‭ ‬أنفسهم‭ ‬وعلى‭ ‬بيعهم‭ ‬وصلبهم‭ ‬حتى‭ ‬يبلغوا‭ ‬أمنهم،‭ ‬ومن‭ ‬أقام‭ ‬منهم‭ ‬فعليه‭ ‬مثل‭ ‬ما‭ ‬على‭ ‬أهل‭ ‬إيلياء،‭ ‬ومن‭ ‬شاء‭ ‬أن‭ ‬يسير‭ ‬مع‭ ‬الروم،‭ ‬سار‭ ‬مع‭ ‬الروم‭ ‬وهو‭ ‬آمن،‭ ‬ومن‭ ‬شاء‭ ‬أن‭ ‬يرجع‭ ‬إلى‭ ‬أهله،‭ ‬رجع‭ ‬إلى‭ ‬أهله،‭ ‬وهو‭ ‬آمن،‭ ‬وعلى‭ ‬ما‭ ‬فى‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬عهد‭ ‬الله‭ ‬وذمة‭ ‬رسوله‭ ‬وذمة‭ ‬الخلفاء‭ ‬وذمة‭ ‬المؤمنين‭ ‬إذا‭ ‬أعطوا‭ ‬الذى‭ ‬عليهم‭ ‬من‭ ‬الجزية،‭ ‬شهد‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬خالد‭ ‬بن‭ ‬الوليد،‭ ‬وعمرو‭ ‬بن‭ ‬العاص،‭ ‬وعبد‭ ‬الرحمن‭ ‬بن‭ ‬عوف،‭ ‬ومعاوية‭ ‬بن‭ ‬أبى‭ ‬سفيان‭ ‬وكُتِبَ‭ ‬وحُضِرَ‭ ‬سنة‭ ‬خمس‭ ‬عشرة‮»‬‭.‬

وهكذا،‭ ‬جاء‭ ‬الفتح‭ ‬الإسلامى‭ ‬تعريفًا‭ ‬للعالم‭ ‬بمكانة‭ ‬القدس‭ ‬فى‭ ‬الإسلام،‭ ‬كما‭ ‬فى‭ ‬المسيحية‭ ‬واليهودية،‭ ‬وبعد‭ ‬الفتح‭ ‬الإسلامى‭ ‬للقدس،‭ ‬سُمح‭ ‬لليهود‭ ‬بزيارة‭ ‬وممارسة‭ ‬شعائرهم‭ ‬الدينية‭ ‬بحرية‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الخليفة‭ ‬عمر‭ ‬بعد‭ ‬ما‭ ‬يقرب‭ ‬من‭ ‬500‭ ‬سنة‭ ‬من‭ ‬طردهم‭ ‬من‭ ‬الأراضى‭ ‬المقدسة‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الرومان‭.‬


رفض‭ ‬عمر‭ ‬الصلاة‭ ‬فى‭ ‬الكنيسة

بعد‭ ‬ذلك‭ ‬دعا‭ ‬البطريرك‭ ‬صفرونيوس‭ ‬سيدنا‭ ‬عمر‭ ‬لتفقد‭ ‬كنيسة‭ ‬القيامة،‭ ‬فلبّى‭ ‬دعوته،‭ ‬وأدركته‭ ‬الصلاة‭ ‬وهو‭ ‬فيها،‭ ‬فالتفت‭ ‬إلى‭ ‬البطريرك،‭ ‬وقال‭ ‬له‭:‬‭ ‬‮«‬أين‭ ‬أصلى؟‮»‬،‭ ‬فقال‭: ‬‮«‬صلِّ‭ ‬مكانك‮»‬،‭ ‬فخشى‭ ‬عمر‭ ‬أن‭ ‬يصلى‭ ‬فيها‭ ‬فيتخذها‭ ‬المسلمون‭ ‬من‭ ‬بعده‭ ‬مسجدا،‭ ‬فقال‭: ‬‮«‬ما‭ ‬كان‭ ‬لعمر‭ ‬أن‭ ‬يصلى‭ ‬فى‭ ‬كنيسة‭ ‬فيأتى‭ ‬المسلمون‭ ‬من‭ ‬بعدى‭ ‬ويقولون‭ ‬هنا‭ ‬صلى‭ ‬عمر‭ ‬ويبنون‭ ‬عليه‭ ‬مسجدا‮»‬،‭ ‬وابتعد‭ ‬عنها‭ ‬رمية‭ ‬حجر‭ ‬وفرش‭ ‬عباءته‭ ‬وصلى،‭ ‬وبعد‭ ‬ذلك‭ ‬بنى‭ ‬مسجد‭ ‬‮«‬عمر‮»‬‭ ‬فى‭ ‬البقعة‭ ‬نقسها‭ ‬التى‭ ‬صلى‭ ‬فيها‭ ‬الخليفة‭ ‬عمر‭ ‬بن‭ ‬الخطاب،‭ ‬واستمر‭ ‬الحكم‭ ‬الإسلامى‭ ‬على‭ ‬القدس‭ ‬لمدة‭ ‬400‭ ‬سنة‭ ‬متتالية،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬جاءت‭ ‬الحملة‭ ‬الصليبية‭ ‬الأولى‭ ‬فى‭ ‬عام‭ ‬1099‭.‬

نقلا عن العدد الورقي 

الجريدة الرسمية