الدكتور أحمد كريمة يكتب: خواطر في عيد رفع السيد المسيح
معاملات عملية لأهل الكتاب الموادعين
(1 ) فريضة الإحسان إلى أهل الكتاب:
يحدد الإسلام علاقة الناس بعضهم ببعض على أسس راسخة واضحة ومقاصد طيبة منها وأهمها: عدم إلغاء الغير، ولا محو تراثه، ولا طمس هويته، علاقة تقوم على الالتقاء على الحق لذاته، فالأصل أن يتعارف الناس ويلتقوا، لا أن يتفرقوا ويختلفوا، ويظهر هذا واضحًا فى أن الإسلام يعترف بالرسل والأنبياء – عليهم السلام جميعًا { لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ } ويجعل الإيمان بهم جزءً أساسيًا من المكونات الإيمانية {قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ }.
وتعدد الشعوب وتنوع العقائد لا يحول دون التعارف والتعايش، قال الله – عز وجل -: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } .
وكرّم الإسلام الرسل والأنبياء جميعًا، قال الله – تبارك وتعالى -: { إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ } ، وخص أولى العزم من الرسل – عليهم السلام – بمزيد من التوقير والتقدير { وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي }عن موسى – عليه السلام – وقال عن كتابه { إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ } وعن المسيح – عليه السلام – {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ }وعن حوارييه {كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ }، وذكر معابد الشرائع السماوية فى سياق واحد { وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ }
وشرع مخالطتهم {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ} ، وأوجب الإحسان إليهم من المشاركات الاجتماعية من تهانى وتعازى وحسن جوار ومعاملة {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}
وقد فقه أئمة العلم الذين يعتد بعلمهم لا الدخلاء أو المتطفلين أو الطارئين الإخاء الديني مع أهل الكتاب، فمن النماذج المضيئة:
أ ) قال الإمام ابن حزم – رحمه الله تعالى - : " إن من كان فى الذمة وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه وجب علينا أن نخرج لقاتلهم بالكراع والسلاح ونموت دون ذلك لمن هو فى ذمة الله – تعالى – ورسوله - r - فإن تسليمه دون ذلك إهمال لعقد الذمة".
عقد الذمة
ب ) قال الإمام القرافي – رحمه الله تعالى – : " إن عقد الذمة يوجب لهم حقوقًا علينا لأنهم فى جوارنا وفى ذمة الله وذمة رسوله - r - ودين الإسلام، فمن اعتدى عليهم ولو بكلمة سوء أو غيبة فى عرض أحدهم أو أى نوع من أنواع الأذية أو أعان على ذلك فقد ضيّع ذمة الله ورسوله - r - وذمة دين الإسلام".
وشواهد تجاوز العدو وتفوق الحد تشهد بالفقه السليم والبصر الصحيح بحسن معاملة أهل الكتاب، فمن ذلك:أن أمير المؤمنين عمر – رضى الله عنه – اقتص لمسيحى مصرى اعتدى ابن أمير مصر عمر بن العاص – رضى الله عنه – على ابنه، وقال: ( متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا )، وفرض ليهودى مسن راتبًا فى بيت مال المسلمين، وأن خالد بن الوليد – رضى الله عنه – كتب لأهل الحيرة: ( أيما شيخ ضعّف عن العمل أو أصابته آفة أو كان غنيًا فافتقر وصار أهل دينه يتصدقون عليه عيل وعياله من بيت مال المسلمين )، وما كتبه عمر بن عبد العزيز – رضى الله عنه – إلى عدى بن أرطأة عامله على البصرة ( وانظر قبلك من أهل الذمة من كبرت سنه وضعف قوته وولت عنه المكاسب من الحق له أن يجرى عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه).
الإحسان لأهل الكتاب
ومعلوم الوصايا النبوية فى الإحسان لأهل الكتاب (الله الله فى قبط مصر فإنهم عدة وبلاغ لكم على عدوهم ) ( ستفتح لكم مصر من بعدى فاستوصوا بأهلها خيرا فإن لكم فيها ذمة ورحما )
وقد استضاف سيدنا محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كبار ورؤساء ورتب نصارى نجران بمسجده، وأذن لهم تأدية شعائرهم العبادية فيه، وأعطاهم عهدا: ضمن لهم كنائسهم وصلبانهم وكتبهم ورجال الدين عندهم، وعدم إكراه نصرانية على التزوج بمسلم، وإذا رغبت الزواج والبقاء على دينها فلا تكره، ووجوب إعانة المسلمين لهم فى ترميم كنائسهم ولا تكون الإعانة دينًا عليهم ويبلغ التسامح المحمدى النبوى الذروة التى لم تسبق ولن تلحق ( وأن أحرس دينهم وملتهم أين ما كانوا بما أحفظ نفسى وخاصتى وأهل الإسلام من ملتى، لأنى أعطيتهم عهد الله على أن لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، وعلى المسلمين ما عليهم ).
وإن الحصانة الدينية لرجال الدين من أهل الكتاب فى عدم إيذائهم أو التعدى عليهم – سلمًا أو حربًا – أمر مقرر فى التشريع الإسلامى المنهى النبوى المحمدى عن قتل الرهبان المنعزلين.
وهذا كله يؤكد بوضوح قيم المواطنة وفقه التعايش ومراعاة الإخاء الدينى، والتسامح الإسلامى.
أما أقوال مرسلة أو حوادث لظروف استثنائية فهى خروج عن الأصل الأصيل ( فريضة الإحسان إلى أهل الكتاب).
(2 ) شواهد تكريم أهل الكتاب
شواهد محكمة، قطعية الورود والدلالة معا فى النصوص الشرعية فى الإسلام، لتكريم الوحى المعصوم المنزل من الله – عز وجل -، والمبلغ من نبى الإسلام - r - لأهل الكتاب - اليهود والنصارى - سيدنا محمد - r - فمن ذلك:
فرح المسلمين بنصر الروم على الفرس:
قال الله – سبحانه - { غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} ، تشير الآيات البينات إلى ما حصل من نصر الفرس المجوس على نصارى الشام، فشمت كفار مكة فى المسلمين، فأخبر الله – عز وجل – بحصول نصر ساحق للروم على الفرس – قبل حصوله ببضع سنين، قال ابن كثير: فلما انتصرت الروم على فارس، فرح المؤمنون بذلك ؛ لأن الروم أهل كتاب فى الجملة، فهم أقرب إلى المؤمنين من المجوس.
اعتزاز النبى محمد - r - بسيدنا المسيح – عليه السلام -: أخرج البخارى فى صحيحه بسنده عن أبى هريرة – رضى الله عنه – قال: قال رسول الله - r -: أنا أولى الناس بعيسى بن مريم فى الدنيا والآخرة، والأنبياء إخوة لعلات أمهاتهم ودينهم واحد ".
احتفال النبى محمد - r - بنجاة سيدنا موسى – عليه السلام -:
أخرج الشيخان - البخارى ومسلم – فى صحيحهما بسندهما عن ابن عباس – رضى الله عنهما -: " قدم النبى - r - المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال: ما هذا ؟ قالوا: هذا يوم صالح، هذا يوم نجى الله – تعالى – بنى إسرائيل من عدوهم، فصامه موسى – عليه السلام -، قال: فأنا أحق بموسى منكم، فصامه وأمر بصيامه ".
ثناء القرآن الكريم على أهل الكتاب :
يعنى به الثناء العام على اليهود والنصارى. قال الله – تعالى -: {لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَـئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوْهُ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ }
شواهد إيجابية تؤصل روح التسامح والتآلف، وترسى دعائم التعاون والتعاطف، وترسخ زمالة شرائع السماء.
أما ما ورد من شواهد خلاف ما ذكر فهى لظروف خاصة وأوضاع طارئة، وأسباب مؤقتة، تنزل على موردها، أى حكم خاص بطائفة، أو لفرد، وليس حكمًا عامًا.
حرى بالمؤسسات ذات العلاقة فى الشرائع الثلاث نشر ثقافة المحبة فيما بينهم، للتصدى للعدو المشترك الإلحاد والإرهاب، وعرض صحيح الأحكام المرتكزة على " النص السماوى " لا الرأى البشرى، فأخطر ما يكون على الثقافة الدينية جعل آراء ونقولات وتصورات بشرية بعد عصور النبوات فى قوة الوحى دلالة ومنهاجًا، مع تناقضها، كما هو الحال فى بعض كتابات العداء والاستعداء، عند الجميع.
جعل الله – تعالى – مصر: مولد موسى – عليه السلام -، وضيافة عيسى – عليه السلام -، ورحمة محمد - r - وأصله الكريمين هاجر وإسماعيل وزوجه مارية وولده إبراهيم – عليهم جميعًا السلام واحدة المحبة القدوة والأسوة للناس جميعًا.
الرفع الإلهى لسيدنا المسيح – عليه السلام -: يؤمن المسلمون والمسيحيون فى الجملة برفع المسيح – عليه السلام – عقب المؤامرة ضده – بغض النظر عن تفاصيل وصفة الرفع، فيما يخصنا نحن المسلمين، قال الله – عز وجل -: {إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } .
فخلاصة ما قاله جمهور علماء المسلمين: أن المسيح – عليه السلام – رفع حيًا من غير موت ولا غفوة بجسده وروحه إلى السماء، والخصوصية له – عليه السلام – هى فى رفعه بجسده وبقائه فيها إلى الأمد المقدر له، ولا يصح أن يحمل التوفى على الإماتة لأن إماتته فى وقت حصار أعدائه ليس فيها ما يسوغ الامتنان بها ورفعه إلى السماء جثة هامدة شطط من القول، وقد نزه الله – عز وجل – السماء أن تكون قبورًا لجثث الموتى، وإن كان الرفع بالروح فقط فأى مزية له فى ذلك على سائر الأنبياء – عليهم السلام – والسماء مستقر لأرواحهم الطاهرة، فالحق أنه – عليه السلام – رفع إلى السماء حيًا بجسده، وكما كان – عليه السلام – فى مبدأ خلقه آية للناس، ومعجزة ظاهرة، كان فى نهاية أمره آية ومعجزة باهرة، والمعجزات بأسرها فوق قدرة البشر ومدارك العقول، وهى من متعلقات القدرة الإلهية.
الأستاذ الدكتور: أحمد محمود كريمة
أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر الشريف بالقاهرة
كلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنين القاهرة
رئيس ومؤسس " التآلف بين الناس " الخيرية
ونقدم لكم من خلال موقع "فيتو"، تغطية ورصدًا مستمرًّا على مدار الـ 24 ساعة لـ أسعار الذهب، أسعار اللحوم، أسعار الدولار ، أسعار اليورو، أسعار العملات، أخبار الرياضة، أخبار مصر، أخبار اقتصاد ، أخبار المحافظات، أخبار السياسة، أخبار الحوادث، ويقوم فريقنا بمتابعة حصرية لجميع الدوريات العالمية مثل الدوري الإنجليزي، الدوري الإيطالي ، الدوري المصري، دوري أبطال أوروبا، دوري أبطال أفريقيا، دوري أبطال آسيا، والأحداث الهامة و السياسة الخارجية والداخلية، بالإضافة للنقل الحصري لـ أخبار الفن والعديد من الأنشطة الثقافية والأدبية.