ما حكم التبرك بذكر أسماء أهل بدر؟ الإفتاء تجيب
كشفت دار الإفتاء حكم التبرك بذكر أسماء أهل غزوة بدر من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين والتوسل بهم في أوقات الشدة والضيق.
وأكدت دار الإفتاء عبر موقعها الرسمي أن غزوة بدر من العلامات الفارقة في تاريخ الأمة الإسلامية وقد سمَّاها القرآن الكريم "يوم الفرقان"، ولذا أطلق عليها أصحابُ السِّيَر والمَغازي "غزوة الفرقان"؛ لما فيها من تجليات قدسية، وفيوضات إلهية، وهَيْبَةٍ حقيقية، يمتلئ بها العاقل عبرة وعظة، يجعلانه يتذكرها ويتأسى بها مهما مرت به السنون والأحداث، فينغرس بداخله من معاني الثقة بالله تعالى أنه مهما اشتدَّ الباطلُ وقوِيتْ شوكتُه وعلا صوتُه، فسوف ينصر الله تعالى الحقَّ لا محالة، إذا ما صاحَبَه صدقٌ في العزم، وخلوصٌ في القصد، وإحسانٌ في التوجه إلى الله تعالى.
ما هي المنظومة البدرية "جالية الكدر"
ومن المؤلفات التي تناولت غزوة بدر "جالية الكدر" أو "البدرية" للعلامة زين العابدين جعفر بن حسن بن عبد الكريم الشهرزوري الشهير بالبرزنجي مفتي الشافعية بالمدينة المنورة [ت: 1177هـ]، وهي منظومة رائية اشتملت على أسماء أصحاب سيد المرسلين والبشر من أهل بدر وشهداء أحد، وقد لاقت قبولًا واسعًا وانتشارًا كبيرًا لدى المسلمين فحرصوا على قراءتها في ذكرى يوم وقوع غزوة بدر مِن كلِّ عام؛ وذلك بقصد إحياء ذكراها، والاتعاظ بأحداثها، وشكرِ اللهِ تعالى على ما أنعم به على المسلمين من النصر فيها، إذ هي يوم من أيام الله تعالى أعزَّ فيه الإسلامَ ونصر المسلمين، وقد قال تعالى: ﴿وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ﴾ [إبراهيم: 5].
وقد عَدَّدت هذه المنظومة أسماء الصحابة الذين شهدوا غزوة بدر جميعًا، والذين استُشهِدوا فقط في غزوة أحد؛ حرصًا على ذكر فضلهم، وتوسلًا إلى الله تعالى بجميل صنعهم في خصوص هذين الغزوتين، إضافة إلى عموم فضل صحبتهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك أنَّ من مآثرهم ما أثبته الله تعالى لهم من الحياة المحققة المنعمة في الجنة؛ قال تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ [آل عمران: 169].
إحياء ذكرى غزوة بدر بقراءة منظومة "جالية الكدر"
ونالت منظومة -جالية الكدر- قبول لدى عامة المسلمين ومداومة على قراءتِها وإحياء ليلة ذكرى موقعة بدر بها، وهي من الأفعال الجائزة المستحسنة شرعًا لعدة أمور:
أولًا: أن في ذلك حرصًا وإقبالًا على قراءة سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتذكر أخباره الشريفة ومآثره المنيفة، وهو ممَّا يزيد قلوبَ المؤمنين تعلقًا بالجناب النبوي العظيم وشوقًا إليه وإلى صحبه الكرام رضي الله عنهم أجمعين، فيزداد المؤمن بذلك إيمانًا، ويزداد فؤاده ثباتًا على محبته صلى الله عليه وآله وسلم.
ثانيًا: أن الحرص على إحياء ليلة بدر بتذكر أحداثها ورجالها، امتثالٌ لما حث عليه القرآن الكريم في غير موضع بتذكر أحداثها وشكر الله تعالى على نعمته بالنصر فيها، وما يلزم عن ذلك من التأسي والاتعاظ بها مهما مرت الأيام والسنون؛ قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [آل عمران: 123].
ثالثًا: أن أهل بدر قد فضلهم الله تعالى بها، وخصهم بأن غفر لهم ما قدموا وما أخروا، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث أمير المؤمنين علي بن أبي طالب السابق ذكره، فامتازوا بها بخصيصة جعلتهم ممَّن يحبهم الله تعالى ويقربهم، إضافة إلى ثبوت الحياة الحقيقية لمَن استشهد منهم؛ كما في قوله: ﴿بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾، حتى يتحتَّم الاعتقاد بأنهم من أفضل الناس الذين خلقهم الله تعالى بعد الخلفاء الأربعة والمهاجرين والعشرة المبشرين بالجنة.
رابعًا: أن العلماء قد نصُّوا في خصوص أهل بدر أن الدعاء بعد ذكرهم مستجاب.
قال العلامة جلال الدين الدواني في "حاشيته على العقائد العضدية" (1/ 447، ط. دار الكتب العلمية، مع "حاشية الكلنبوي"): [وأهل بدر وهم الذين حاربوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقريب قليب بدر، وكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر شخصًا، والكفار تسعمائة وخمسين، وقد تعاضدت الأحاديث الصحيحة في شأنهم أنهم من أهل الجنة، وقد عدَّهم الإمام البخاري رحمه الله تعالى في "جامع الصحيح"، وقد سمعنا من مشايخ الحديث أن الدعاء عند ذكرهم على ما في "البخاري" مستجاب. وقد جُرب ذلك، وكذا فاطمة وخديجة والحسن والحسين وعائشة رضي الله عنها من سائر أزواج الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ورضي الله عنهن] اهـ، ونقله عنه جماعة من العلماء المحققين مقررين له، منهم:
العلامة الديار بكري في "تاريخ الخميس" (1/ 371، ط. دار صادر)، والحلبي في "السيرة الحلبية" (2/ 202، ط. دار الكتب العلمية)، والعلامة الزرقاني في "شرحه على المواهب اللدنية" (2/ 259، ط. دار الكتب العلمية)، والعلامة عبد الملك العصامي في "سمط النجوم العوالي" (2/ 93، ط. دار الكتب العلمية)، والعلامة الخادمي في "بريقة محمودية" (1/ 215).
فكان ذلك مدعاة لأَنْ يحرص المسلم على أن يرجو من الله أن يُشَفِّعَ فيه محبَّتَه لهم، وأن يقبل توسله بهم فيما يرجوه من جلب خير أو دفع ضر، ولا تخلو منظومة "جالية الكدر" -المسؤول عنها- عن كونها إحياءً لذكرى هذه الليلة مع التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وبمَن شهدها من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، وأيضًا بمَن لم يشهدها منهم.
حكم التوسل بالنبي وبالصحابة والأولياء والصالحين
وقد تواردت النصوص على جواز التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وبالصحابة والأولياء والصالحين، بل وعلى استحسان ذلك.
وقضية المسلم في حياته: أن يتقرب إلى الله ويُحَصِّل رضاه وثوابه، ومن رحمة الله بنا أن شرع لنا العبادات وفتح لنا باب القربة إليه؛ فالمسلم يتقرب إلى الله بشتى أنواع القربات والطاعات.
وقد أجمع المسلمون أن النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم هو الوسيلة العظمى، واتفقت الأمة على التوسل به صلى الله عليه وآله وسلم من غير خلاف من أحد يُعتَدُّ به.
يقول الإمام المجتهد تقي الدين السبكي في كتابه "شفاء السقام" (ص: 119، ط. دائرة المعارف النظامية): [اعْلَمْ أنه يجوز ويَحسُنُ التوسلُ والاستغاثة والتشفعُ بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى ربه سبحانه وتعالى، وجوازُ ذلك وحسنُه من الأمور المعلومة لكلِّ ذي دِين، المعروفةِ مِن فعل الأنبياء والمرسلين، وسِيَر السلف الصالحين، والعلماء والعوامِّ من المسلمين، ولم يُنكِر أحدٌ ذلك مِن أهل الأديان، ولا سُمِع به في زمنٍ مِن الأزمان، حتى جاء ابنُ تيمية؛ فتكلَّم في ذلك بكلام يُلَبِّسُ فيه على الضعفاء الأغمار، وابتدع ما لم يُسبَقْ إليه في سائر الأعصار] اهـ.
وأما جواز التوسل بالصحابة والصالحين وأهل الفضل، فقد روى البخاري في "صحيحه" عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب، فقال: «اللَّهُمَّ إِنَّا كُنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا، وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا»، قال: فيسقون. وأخرجه الأئمة: ابن شبة في "تاريخ المدينة"، وابن خزيمة في "صحيحه"، وابن حبان في "صحيحه"، والطبراني في "الدعاء" من حديث أنس رضي الله عنه.
وبناء على ذلك: فإنَّ قراءة منظومة البدرية المعروفة بـ "جالية الكَدَر" في ذكرى انتصار غزوة بدر، الموافقة ليلة السابع عشر من شهر رمضان في كلِّ عامٍ هجري من الأمور الجائزة، بل والمستحبة شرعًا؛ لما فيها من شكر نعمة الله تعالى بتذكر أيام الفضل والإنعام، مع ما فيها من زيادة التعلق بالجناب النبوي الشريف بمطالعة سيرته ومآثره صلى الله عليه وآله وسلم، مع ما في ذلك من الدعاء والتوسل به عليه الصلاة والسلام وبصحابته الكرام، وأهل بدر على الخصوص منهم، وهو من الأمور الحسنة التي ثبت نفعها بالتجربة وأقرها جمهور العلماء المعتبرين من السلف والخلف.