الابتهالات الدينية فن المصريين الخالص.. الفراعنة أول من أنشدوا حُبا فى الآلهة.. والعصر العباسى ذروة الابتهال الإسلامي
من إبراهيم الموصلى وإسحاق الموصلى إلى الآن، ومن العصر العباسى الأول حتى الألفية الثانية، تاريخ عريق يتميز به فن الابتهالات الذى وصفه الأصفهانى فى كتابه الشهير «الأغاني»، بأنه حلقة الوصل بين القراءات القرآنية بمعناها الفنى وبين الغناء العربى.
وكان شهر رمضان مجالا لهذا الفن بوجه خاص، وعندما جاء العصر الحديث انضم كثير من المشايخ إلى هذا الفن بجانب تلاوة القرآن، وقد فتحت الإذاعة أبوابها له فظهر الشيخ سيد النقشبندى والشيخ محمد الفيومى ونصر الدين طوبار وطه الفشنى وعلى محمود والشيخ كامل يوسف البهتيمى والشيخ إبراهيم الفران وغيرهم.
فن مصرى خالص
ويروى الدكتور إبراهيم النواوى، أستاذ علم الآثار فى مجلد أصدره المجلس الأعلى للثقافة عام 1975، أن الإنشاد الدينى ظاهرة مصرية أصيلة راسخة فى وجدان المصريين منذ العصور القديمة كاحتفالات الآلهة «رع وآمون وإيزيس»، كما أنه توجد صور على جدران المعابد للعازفين والمنشدين، كما وجدت كثير من البرديات تحوى نصوصا دينية تحمل الابتهال إلى الآلهة الخاصة بكل حقبة، ثم جاء الابتهال والإنشاد والمديح بعد ظهور الإسلام وتعددت مراحل تطوره حتى وصل إلى الصورة الحالية.
وقد جرت العادة أن يستقبل المنشدون شهر رمضان بتواشيح وابتهالات ومدائح تقدمها مجموعات وفرق متخصصة، وكما ذكر الدكتور محمد الحفنى فى دراسة له عام 1974، أن الملك أبا المظفر ملك أربيل هو أول من ابتدع إشراك الإنشاد الدينى فى الاحتفال بشهر رمضان فكان يستقطب الشعراء والعلماء من مختلف البلاد للاحتفال معه فى أربيل لغناء القصائد والسيرة النبوية الشريفة.
وحفاظا على هذا اللون من الغناء الدينى، أسست فرقة الموسيقى العربية فرعا لها يقدم الإنشاد، وأطلقت عليه فرقة الإنشاد الدينى تابعة لأكاديمية الفنون، وبدلا من مدرسة المشايخ الذى ساد أواخر القرن الـ19 حتى أوائل القرن العشرين وسمى بعصر المشايخ الذى ضم الشيخ عبد الرحيم المسلوب ودرويش الحريرى وإسماعيل سكر وعلى محمود وطه الفشنى، أصبح يوجد الآن المعاهد الموسيقية والمساحات المحدودة فى وسائل الإعلام المختلفة.
شيوخ العصر
وفى العصر الحديث جاء من طوّر فى الأداء والكلمة واللحن للابتهالات والمدائح النبوية، منهم الشيخ على محمود والشيخ سيد النقشبندى والشيخ نصر الدين طوبار والشيخ محمد عمران ومحمد الكحلاوى، وهؤلاء أثروا المكتبة الإسلامية بمئات الابتهالات الدينية وتركوا تراثا لا يقدر بثمن، وهم ما زالوا يعيشون بتراثهم فى وجدان المصريين والمسلمين عامة.
فالشيخ على محمود هو سيد القراء وإمام المنشدين، وصاحب مدرسة عريقة فى التلاوة والإنشاد، تعلّم أصول النغم على يد الشيخ على المغربى ومن خلال حفظ البحور الشعرية حتى صار منشد مصر الأول، حتى أن الشيخ عبد العزيز البشرى قال عنه: «إن صوت على محمود من أسباب تعطيل حركة المرور فى الفضاء لأن الطير السارح فى السماء يتوقف إذا استمع إلى صوته».
ومن تلامذته الشيخ سيد النقشبندى صاحب الصوت الملائكى عندما تسمعه يشدو «مولاى إنى ببابك قد بسطت يدى.. من لى ألوذ به إلاك يا سندى»، وقد ارتبط صوته القوى بشهر رمضان يصافح أذان الملايين أثناء الإفطار والسحور بأحلى الابتهالات، حفظ أشعار البوصيرى وابن الفارض، واستطاع أن ينقل فن الابتهالات والتواشيح من أروقة الصوفية وزواياهم، إلى آذان المسلمين جميعا بعد اعتماده بالإذاعة عام 1967 ليصبح ملمحا من ملامح شهر رمضان.
نصر الدين طوبار
أما ثانى المبتهلين، الشيخ نصر الدين طوبار جميل الصوت، قدم ما يقرب من مائتى ابتهال أبرزها: يا مالك الملك ومجيب السائلين، وجل المنادى، يا منقذى، يا مالك الملك، ماذا بعد ما زحف المشيب، وغيرها، وقد عمل قائدا لفرقة الإنشاد الدينى التابعة لأكاديمية الفنون، وأنشد على قاعة ألبرت هول بلندن وكتبت عنه الصحافة أن صوته يعزف على أوتار القلوب.
تراث شعبي
وحول الابتهالات الدينية، يقول الدكتور علوى خليل، أستاذ الفقه والدارس لعلم البرديات، إن فلسفة وثقافة الابتهال كتراث شعبى ممتدة منذ القدم، ولكن اصطبغت تلك الفلسفة بصبغة كل دين ظهر على أرض مصر، وحينما جاء الإسلام تبلورت الابتهالات وانتشرت فى عهد الرسول الكريم واليوم وتعددت أشكاله التى نراها اليوم.
كما يقول الدكتور أحمد عمر هاشم، إن فن الابتهالات والمدائح النبوية أسهم بشكل كبير فى المحافظة وانتشار قواعد اللغة العربية فى الغرب، وأيضًا الموروثات الثقافية الإسلامية المتوارثة عبر الأجيال المختلفة، مشيرا إلى أن أشهر الموروثات الثقافية التى تداولها المنشدون والمبتهلون المسماة ببردة المديح، وأن أول بردة كانت فى تاريخ التراث الصوفى تلك التى كتبها كعب بن زهير عندما خرج من الكفر إلى الإسلام وأنشد قصيدته التى أعجب بها الرسول الكريم حتى أنه خلع بردته وأعطاها له تعبيرا عن تقديره، ومن هنا سميت القصيدة بالبردة.
وأضاف هاشم، ثم كانت البردة الثانية للإمام البوصيرى الذى كان ينشد الابتهالات وهو قعيد، فرأى فى منامه رسول الله يلقى عليه ببردته، فمن الله عليه بالشفاء، وكان أفضل من أنشد بردة البوصيرى، الشيخ عبد العظيم العطوانى، ولذلك فالابتهالات تخاطب القلوب والوجدانات، وهى دعوة إلى الله بسبب ما تتضمنه هذه الابتهالات والمدائح.
ويشير المفتى السابق الدكتور على جمعة، إلى أن مدح الأمة للنبى محمد دليل محبتها له، وهذه المحبة هى من أصول الإيمان، وقد عرف العلماء المدح النبوى بأنه الشعر المنصب على مدح النبى بتعدد صفاته وسيرته وغزواته، وبما أن المدح مشروع بعموم القرآن جاءت السنة النبوية نصا وإقرارا، فروى أحمد فى مسنده عن الأسود بن سريع رضى الله عنه قال: يا رسول الله، إنى قد مدحت الله بمدحة ومدحتك بأخرى، فقال النبى: «هات، وابدأ بمدحة الله عز وجل».
وأضاف أن المدائح النبوية سنة كريمة درج عليها المسلمون سلفا وخلفا، وليست مستحدثة مع الإمام البوصيرى، ومن الذين مدحوا الرسول الكريم فى أشعارهم حسان بن ثابت وكعب بن مالك وكعب بن زهير وعبد الله بن رواحة.
نقلا عن العدد الورقي