قطايف رمضان.. نوادر المعلمين وحكاية حمار أم عمرو
من كتاب " نوادر المعلمين للجاحظ " قال: مررت بمعلم وقد كتب لغلام (وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدًا وأكيد كيدًا فمهّل الكافرين أمهلهم رويدًا) فقلت له: ويحك فقد أدخلت سورة في سورة قال: نعم إذا كان أبوه يدخل شهرًا في شهر فأنا أيضًا أدخل سورة في سورة فلا آخذ شيئًا ولا ابنه يتعلم شيئًا.
لا أكلمه
قال بعضُهم: مررت ببعض سككِ البصرة وإذا معلمٌ قد ضرب صبيًا، وأقام الصبيان صفًا، وهو يقولُ هلم: اقرءوا. ثم جاء إلى صبي بجنْب الصبي الذي ضربه، فقال: قُل لهذا يقرأُ، فإني لست أكلمه.
لحى آبائهم
قال أحدهم مررتُ يومًا بمعلِّم - والصبيانُ يحذِفُون عينَه بالقَصب - وهو ساكتٌ - فقلت: ويحْكَ أرى منك عَجَبا. فقال: وما هُو ؟ قلتُ: أراكَ جالِسًا والصبيانُ يَحْذفُون عَيْنِك بالقَصب فقال: اسكتْ، ودَعْهُم. فما فَرحي والله إلا أنْ يُصيبَ عَيْني شيءٌ، فأريكَ كيفَ أنتِفُ لِحَي آبائهم.
علم الحساب
كان بحمص مُعلم يُكنى أبا جعفر يتعاطى عِلْمَ الحساب، فصارتُ إليه يومًا امرأةٌ، فقالتْ: يا أبا جعفر: ؛ قفيزُ دقيق بثمانيةِ دراهم كم يُصيبُني بأربعة دراهمَ ؟ فقال لها، بعد أن فكَّرَ: في هذه المسألةِ ثلاثةُ أقوال: أحدهما أنْ تُعطى الرجُل أربعةٌ أخرى، وتأْخُذي قفِيزًا، والآخر: لك قفيزٌ إلا بأربعةِ دراهم. والثالث: تدفعين دِرْهمَ درهمَ، وتأْخذين مَكُّوكَ مكُّوكَ حتى تستوفين.
المعلم المصفوع
قال بعضهم مررتُ بمعلم وهو جالسٌ وحده، وليس عِنْده من الصّبيان أحدٌ، فقلتُ له: يا معلِّمُ، ما فعل صبيانُك ؟ فقال: خلْف الدُّور يتصافَعون. فقلتُ: أريد أن أنظرَ إليهم. فقال: إن كان ولا بُدَّ فاكشف رأسكَ، حتى لا يحسبُونك أنا فيصفعُوك.
اللحم بالبصل
قال أحدهم سمعتُ معلِّمًا وهو يقرئُ صبيًّا وما أمْرُنَا إلا واحدةُ كَلمح بالبصر والصبيُّ يقول: كلحم بالبَصِل فقال له: يا فاعلُ، أحسبك تشتهي بصَليَّة.
حمار أم عمرو
حكي عن الجاحظ أنه قال: ألفت كتابا في نوادر المعلمين، وما هم عليه من التغفل، ثم رجعت عن ذلك وعزمت على تقطيع ذلك.
يقول: فدخلت يوما مدينة، فوجدت فيها معلما في هيئة حسنة، فسلمت عليه فرد علي أحسن رد ورحب بي فجلست عنده، وباحثته في القرآن، فإذا هو ماهر فيه، ثم فاتحته في الفقه والنحو وعلم المعقول وأشعار العرب، فإذا هو كامل الآداب، فقلت هذا والله مما يقوي عزمي على تقطيع الكتاب.
قال: فكنت أختلف إليه وأزوره، فجئت يوما لزيارته، فإذا بالكتاب مغلق ولم أجده، فسألت عنه، فقيل: مات له عزيز، فحزن عليه وجلس في بيته للعزاء، فذهبت إلى بيته وطرقت الباب، فخرجت إلي جارية، وقالت: ما تريد؟ قلت: سيدك.
فدخلت، وخرجت، وقالت: باسم الله، فدخلت إليه، وإذا به جالس، فقلت: عظم الله أجرك، لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، كل نفس ذائقة الموت، فعليك بالصبر.
ويستطرد الجاحظ في كشف غفلة المعلم: ثم قلت له: هذا الذي توفي ولدك؟ قال لا، قلت: فوالدك، قال: لا، قلت: فأخاك؟ قال: لا.
يقول الجاحظ: فقلت: فزوجتك؟ قال: لا، فقلت: وما هو منك؟ قال: حبيبتي.
فقلت في نفسي: هذه أول المناحس، فقلت: سبحان الله النساء كثير وستجد غيرها.
فقال معلم الكتّاب: أتظن أني رأيتها؟ قلت: وهذه منحسة ثانية.
يقول الجاحظ: ثم قلت: وكيف عشقت من لم تر؟
فقال: اعلم إني كنت جالسا في هذا المكان وأنا أنظر من الطاق إذ رأيت رجلا عليه برد وهو يقول:
يا أم عمرو جزاك الله مكرمة.. ردي على فؤادي مثلما كانا
لا تأخذين فؤادي تلعبين به.. فكيف يلعب بالإنسان إنسانا
فقلت في نفسي: لولا أن أم عمرو هذه ما في الدنيا أحسن منها، ما قيل فيها هذا الشعر فعشقتها، فلما كان منذ يومين مر ذلك الرجل بعينه وهو يقول:
لقد ذهب الحمار بأم عمرو.. فلا رجعت ولا رجع الحمار
فعلمت أنها ماتت، فحزنت عليها، وأغلقت المكتب وجلست في الدار.
فقلت: يا هذا إني كنت ألفت كتابا في نوادركم معشر المعلمين، وكنت حين صاحبتك عزمت على تقطيعه والآن قد قوي عزمي على إبقائه وأول ما أبدأ أبدأ بك إن شاء الله تعالى.