وثيقة المحاسبة العمرية
كان عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- يحرص حرصا شديدا على إبعاد أهله وأقربائه عن دائرة الحكم، وعن كافة المناصب العامة في الدولة، وكذلك شئون القضاء والشورى والولاية.. والتزم بذلك التزاما شديدا حتى يكون قدوة لغيره من الحكام.
وعندما كان يريد تعيين أحد الولاة على مكان في الدولة يأتى به ويكتب مهام وظيفته، وطريقة تصرفه في شئون ولايته، والأمور التي يلتزم بها مع الرعية في رسالة.. ثم يشهد على هذه الرسالة مجموعة من المهاجرين والأنصار.. وبعدها يعرض محتوى هذه الرسالة على عامة الناس في البلد الذي سيُرسَل إليه.. حتى يطلع الناس على واجبات وسلطات الوالى الذي سيتولى شئون الولاية.. وكأن هذه الرسالة بمثابة وثيقة محاسبة ومحاكمة للوالى إذا تجاوز حدود سلطاته.
كما كان عمر يحرص على إطلاع الناس على واجبات وسلطات الولاة.. وكثيرا ما كان يخطب فيهم في كل مناسبة لترسيخ هذه المبادئ فيهم.. وفى إحدى المرات خطب خطبة في وفد حاشد من عماله قائلا: "ألا وإنى لم أبعثكم أمراء ولا جبارين.. ولكنى بعثتكم أئمة هدى، يهتدى بكم، فأدوا على المسلمين حقوقهم ولا تضربوهم فتذلوهم، ولا تحمدوهم فتفتنوهم.. ولا تغلقوا الباب دونهم.. فيأكل قويهم ضعيفهم.. ولا تستأثروا عليهم فتظلموهم".
وهذه لم تكن مجرد وصايا، بل قرارات وضوابط يلتزم بها كل العمال والولاة، وأنها أساس المحاسبة التي ورد ذكرها في الرسالة التي يكتبها عمر لولاته.
وبعد أن ينتهى عمر من وضع هذه الضوابط يأخذ عهدا من كل عامل ببعض الأمور الأساسية منها:
- ألا يركب "برذونا"- وهو حصان تركى مهيب الشكل، ضخم الجثة.
- ألا يلبس ثوبا رقيقا، وألا يأكل دقيقا نقيا.
- ألا يتخذ حاجبا، وإنما يترك بابه مفتوحا دائما لقضاء حوائج الناس.
وكانت النقطة الأهم التي يتخذها عمر عندما يقرر تعيين أحد الولاة، أن يكتب قائمة بمقدار ما لديه من أموال وأمتعة بالتفصيل، ويكتب إقرارا بعدم التربح من منصبه، ويوقع عليها الوالى الجديد، ثم تُحْفظ، وإذا زادت الحالة المالية للأمير زيادة غير طبيعية يُحاسب عليها، وإذا ثبت أنه تربح منها يعزل من منصبه.. وكان يحصى أموال هذا الوالى، وكل ما زاد عما جاء في إقرار ذمته المالية فنصفه للوالى والنصف الآخر يُرد إلى بيت المال، كما فعل مع خالد بن الوليد.
وكان الفاروق يحرص على وجود عماله في موسم الحج ليحاسبهم، ويستمع إلى شكوى الرعية منهم.. ويروى أن عمر جمع جمعا كثيرا، وخطب فيهم قائلا: "أيها الناس.. إنى والله ما أبعث إليكم الولاة والعمال ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا من أموالكم، ولكنى أبعثهم ليعلموكم دينكم وسنة نبيكم.. فإذا عمل أي والٍ خلافا لذلك فأخبرونى لأقتص منه".
وللحديث بقية إن شاء الله..