رئيس التحرير
عصام كامل

«صفحة جديدة في الشخصية المصرية».. الفراعنة الجدد يستعيدون «روح عمر سليمان» بأحاديثهم.. صور «السيسي وعبد الناصر» تملأ الميادين.. «أوباما» شيخ ملتح و«بوتين&#


الطريق إلى اعتصام «الإخوان» أمام مسجد رابعة العدوية في القاهرة تغيرت معالمه كثيرا. فما زالت آثار الكتابات المعادية لوزير الدفاع الفريق أول عبد الفتاح السيسي و«أعداء الإسلام» و«كارهي الشريعة» تلطخ جدران المنشآت في طريق النصر رغم جهود الأهالي لمحوها بالطلاء.


وما زال الباعة المتجولون يفرشون بضاعتهم على الأرصفة مكتفين بالشباشب البلاستيكية والملابس الصينية، لكن من دون أعلام مصرية أو شارات ثورية. وما زال سكان عمارات يروحون ويجيئون لكن بعد التأكد من إغلاق البوابات جيدا وإيجاد أماكن لسياراتهم في الشوارع الجانبية.

في ظروف غير تلك التي تكون فيها مصيبة قد ألمت بجموع من المصريين من غرق عبارة تقل عمالاً بسطاء، أو تفحم قطار ينقل مواطنين ومواطنات، أو انهيار عمارة على رؤوس سكانها من الأبرياء، أو قتل مشجعين شباب في ملعب لكرة القدم، كان في الإمكان رؤية الوجوم على الوجوه واستشعار الأسى في الكلمات. لكن هذه المرة لم يكن هناك وجوم ولم يلحظ الأسى في شكل واضح. لكن هناك الكثير من الغضب والقلق والترقب وأحياناً التربص.

أحداث «طريق النصر» فتحت صفحة جديدة في الشخصية المصرية، فعلى رغم حرمة الدماء التي يشعر بها كل مصري والتعاطف الفطري بين أبناء الشعب بغض النظر عن الانتماءات والهويات والأيديولوجيات، فإن المواجهة بين «رابعة» وبقية مصر كشفت وجهاً جديداً قبيحاً سلب المصريين قدراً من تعاطفهم وكثيراً من شعارهم التاريخي في الأزمات والخلافات «صلوا على النبي! حصل خير».

الخير الذي لم يحمله «الإخوان» لمصر و«مشروع النهضة» الذي رسموه طائراً أسطورياً فلم يبرح مكانه على الأرض وبرنامج المئة يوم الذي تبخر في هواء الكذب والتدليس و«الناس بتوع ربنا» الذين صعدوا إلى سدة الحكم فأحدثوا سدة في شؤون البلاد والعباد تجلى جميعها واضحاً في الطريق إلى «رابعة».

بائع الملابس على الطريق أكد أنه جاهز تماماً لمواجهة أية مسيرة من «بتوع رابعة» لكنه يفضل الاختباء في مدخل العمارة المواجهة منعاً للاحتكاك. الصبي الذي كان يبيع الأعلام لرواد «رابعة» عاد إلى بيع فوانيس رمضان الصغيرة خوفاً من أن يحسب على فصيل دون آخر. السكان الذين كانوا يشعرون بالأمان لمتاخمة بيوتهم لقسم شرطة مدينة نصر وعدد من المنشآت العسكرية باتوا يستعيذون بالله من الشيطان ويقرأون المعوذتين أو يتضرعون إلى السيدة العذراء لتقيهم شرور الآنام.

صحيح أن عبارات «ربنا يرحم من ماتوا» و «حرام هذه الدماء التي سالت» و «ربنا يصبر أهاليهم» تتردد على مدار الساعة في الشارع إيماء إلى قتلى أحداث «طريق النصر»، لكنها تأتي هذه المرة مذيلة بالدعاء لهداية زملائهم المتبقين في «رابعة» والدعاء على من دفع بهم ليموتوا قرباناً للجماعة. واختفت صفة «شهداء» التي ظلت لصيقة بكل من ماتوا في أحداث الثورة والفترة الانتقالية والمرحلة الانتقامية وعام من حكم مرسي.

وعلى رغم تقدم ساحات التواصل العنكبوتي خطوتين على طريق المصارحة بضرورة تخليص البلاد من شرور الجماعة مهمها بلغت الخسائر والمجاهرة بأنه «لا مجال للتعاطف مع الخيانة» أو السكوت على مخطط الجماعة لحرق البلاد وأنه غير المسموح الحديث عن حقوق الإنسان في ظل جماعة تلتحف بالدين وتغسل الأدمغة وتدفع بكوادرها الشابة ليقتلوا عموم المصريين في سبيل رفعة الجماعة وحماية مشروعها من الزوال، إلا أن نبض الشارع أقل حدة أو ربما يكون أكثر كياسة في التعبير عن الفظاظة الناجمة عن أفعال الجماعة.

أفعال الجماعة ومن معها ونجاحها في كشف الغطاء عن حقيقة تنظيمها السري خلال ثمانية عقود مضت، وإنجازها الأعظم في إسقاط ورقة التوت عن منظومة السياسة الملتحفة بالدين انعكست على عموم المصريين بردود فعل تؤكد ذكاء سياسياً فطرياً لا جدال فيه ممزوجاً بلجوء سريع إلى الإجراء الوحيد المتاح للبقاء على قيد الحياة، وإن كان على غرار «داوها بالتي كانت هي الداء».

فبعد عام كامل من هتافات مدوية بلغت درجة تحولها إلى رنة هاتف محمول «يسقط يسقط حكم العسكر»، وفي أعقاب شعار رنان ردده الجميع فرحاً وطرباً «أول رئيس مدني منتخب» مع التأكيد على صفة «المدنية» في مقابل «العسكرية»، كرت الجموع وفرت من حكم الجماعة وحلفائها، وطبعت صور السيسي على حسابها ونزلت إلى الشوارع تحملها وتحتضنها وتقبلها بعد ما استشعر صاحبها أن «الشعب لم يجد من يرفق به أو يحنو عليه». وبعدما اكتشفوا أن «أول رئس مدني منتخب» لا يعني بالضرورة «غير عسكري» فقط بل قد يؤدي إلى حكم ثيوقراطي يأتمر بأوامر المرشد الأعلى، اصطفوا على الجهة المقابلة لـ «الناس بتوع ربنا».

وفي الطريق إلى «رابعة» حيث الكثير من الترقب والقليل من التربص، تتجلى روح الراحل عمر سليمان ولكن بأشكال مختلفة. فصاحب العبارة الشهيرة التي قلبت محبي الثورة والذين آمنوا بها عليه من أن «المصريين غير جاهزين للديموقراطية بعد» يتجسد في حوارات شارعية حول موقف قطاع عريض من المصريين البسطاء ممن يسلمون أصواتهم الانتخابية لمن يمن عليهم بالشاي والزيت والسكر، ويقودون البلاد إلى هوة من يمدهم بعلاج شاف أو جهاز عروس أو زكاة شهرية في مقابل دعم مرشحهم والدفاع عن شرعيتهم.

شرعية الجماعة التي دخلت في مواجهة مفتوحة مع شرعية المصريين تضع حلم الديموقراطية المستقبلية على المحك، وترفع صور الزعيم الراحل جمال عبدالناصر في الميادين والأذهان. ليس هذا فقط، بل إنها جعلت من الرئيس الأمريكي باراك أوباما شيخاً ملتحياً ومن نظيره الروسي فلاديمير بوتين صديقاً وفياً. يحدث هذا في «الطريق إلى رابعة» خارج متاريس الاعتصام.
الجريدة الرسمية