رئيس التحرير
عصام كامل

سفير أرمينيا يكتب لـ فيتو..هذه أسرار مذبحة الأرمن في سومجاييت بعد مرور 35 سنة.. وما يحدث في "كاراباخ" يجدد الجراح

هراتشيا بولاديان
هراتشيا بولاديان سفير أرمينيا، فيتو

إن مذابح الأرمن في مدينة سومجاييت الصناعية في جمهورية أذربيجان السوفييتية في شهر فبراير عام 1988 لها صلة مباشرة مع الحركة الشعبية التي بدأت في ناغورنو كاراباخ في نفس الفترة لغرض انضمام الإقليم إلى أرمينيا الأم وانفصاله عن أذربيجان.

ولفهم أسباب ومضمون هذه الأحداث الأليمة وكشف أهدافها السياسية لابد لنا أن نتطرق باختصار إلى الجوانب الأساسية لموضوع ناغورنو كاراباخ.

إقليم تاريخي
يعتبر إقليم ناغورنو كاراباخ الذي تبلغ مساحته 400.4 كم مربع، أو "آرتساخ" الأرمنية جزء لا يتجزأ من أرمينيا التاريخية ويشهد على ذلك معلومات المؤرخ اليوناني هيرودوت (القرن 5 ق.م) وسترابو (القرن الأول ق.م) وغيرهما من المفكرين القدامى، وكان يدخل ضمن الولاية العاشرة لأرمينيا. 

وفيه هذا الإقليم تأسست أول مدرسة معروفة بفضل جهود مخترع الأبجدية الأرمنية، ميسروب ماشطوتس عام 405، وكان مقر هذه المدرسة دير آماراس الواقع في منطقة مارتوني الحالية في ناغورنو كاراباخ.


وتثبت النصوص الأثرية والمعلومات التاريخية أن هذه البقاع هي فعلًا مهد الحضارة الأرمنية. 

الفتح العربي

في القرن السابع الميلادي وصلت موجات الفتح العربي الإسلامي إلى المنطقة. وفي القرن الثالث عشر تعرضت لهجمات المغول الذين أطلقوا عليها اسم كاراباخ أي البستان الأسود أو الكرمة السوداء. وظل الإقليم يعرف بهذا الاسم حتى يومنا هذا.

وظهر العنصر التركي -المعروف آنذاك باسم تتر القوقاس والمسمّى لاحقًا في القرن العشرين بالشعب الأذربيجاني- في إقليم كاراباخ في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي. وتراوح عددهم حتى أوائل العشرينات من القرن العشرين ما بين 3-4 في المائة من تعداد السكان العام. 

وفي عام 1918 أصبحت أرمينيا جمهورية مستقلة وكانت مساحتها تبلغ عندئذ تقريبًا 60 ألف كم مربع، وفي وقت لاحق عمدت حكومتا روسيا البلشفية وتركيا، اللتان فرضتا على أرمينيا أحكام معاهدتي كارس وموسكو عام 1921 إلى تقسيم الإقليم بينهما، فأعطيت أذربيجان أراض واسعة ضمّت ناخيتشيفان والمناطق المجاورة لها. 

أرمينيا

وفي 5 يوليو من عام 1921 وبضغط من زعيم الاتحاد السوفييتي جوزيف ستالين، عقد مكتب شؤون القوقاس جلسة بكامل هيئته، أصدر فيها قرارًا دون مناقشة وتصويت اعتبر فيه إقليم ناغورنو كاراباخ جزء من أذربيجان، والتي أصلًا تشكلت كدولة في عصر الاتحاد السوفييتي.

وخلال سنوات الحكم السوفييتي مارست السلطات الأذربيجانية سياسة تمييز عنصري ضد سكان الأرمن لناغورنو كاراباخ،  والتي ازدادت حدّةً بتولي حيدر علييف زمام الحكم كسكرتير أول للجنة المركزية للحزب الشيوعي الأذربيجاني، نتيجة تلك السياسة ازداد عدد السكان الأذربيجانيين في ناغورنو كاراباخ، مما أدى إلى عدم رضى السكان الأرمن المحليين. وصاحب سياسة التعصب الأذربيجاني تدمير الآثار التاريخية والثقافية في المناطق الأرمنية.

وقد أثيرت مسألة إعادة توحيد كاراباخ مع أرمينيا من قبل السكان الأرمن تباعًا في العشرينيات والأربعينيات والستينيات من القرن العشرين ولكن دون جدوى. ومنذ مطلع عام 1988 وبفضل سياسة الأمين العام للحزب الشيوعي السوفييتي جورباتشوف "البيريسترويكا" بدأت في شباط عام 1988 في ناغورنو كاراباخ حركة شعبية كبيرة بهدف توحيد الإقليم مع أرمينيا الأم. 

ناغورنو كاراباخ

وأشاعت وكالات الأنباء الدولية معلومات وأخبار مكثفة عمَّا يجري في المنطقة. وسرعان ما اندلعت في مطلع عام 1992 نيران الحرب بين كاراباخ ذي الحكم الذاتي وأذربيجان واستمرت الاصطدامات الدموية بين الطرفين أكثر من 3 سنوات. 

ولكسب تضامن الشعوب الإسلامية حاولت الدعاية الأذربيجانية، بتشجيع من تركيا، تصوير الحرب في كاراباخ على أنها حرب دينية وطائفية بين الأرمن المسيحيين والأذربيجانيين المسلمين، وهذا بطبيعة الحال تزوير فاضح للحقائق لأن شعب كاراباخ كان يناضل في سبيل حقه المشروع في الإستقلال والعيش بسلام وحرية وتقرير مصيره بنفسه فاستطاع أن يثبت للعالم عدالة قضيته.

مذابح الأرمن
في 27 فبراير 1988، تشكلت عصابات كبيرة من الأذريين وتوزعت ضمن مجموعات شرعت في مهاجمة وقتل الأرمن في الشوارع وفي شققهم على حد سواء، ومما ساعد في ازدياد الأمر سوءًا عمليات النهب التي جرت على نطاق واسع وانعدام الأمن. وكانت أعمال العنف في سومجاييت غير مسبوقة في نطاق الاتحاد السوفييتي، واجتذبت قدرًا كبيرًا من الاهتمام لدى وسائل الإعلام الغربية. 

ووفقًا لشهود عيان أرمن وعدد من أفراد الجيش السوفييتي لاحقًا، وكما أفادت التقارير أيضًا، أنه تم جلب الكحول وأناشا -وهو مصطلح أذري يدل على المخدرات مثل الأفيون-، بالشاحنات وتم توزيعها على الحشود الأذرية.


بدأت أول أعمال العنف بالقرب من محطة الحافلات في المدينة حيث قاموا بتخريب وتدمير أكشاك الصحف والمحلات التي يملكها الأرمن، وكانت العصابات أغلقت الطرق وأوقفت السيارات والحافلات، وان ثبت وجود الأرمن، قامت هذه العصابات بسحبهم وضربهم -وفي بعض الأحيان حتى الموت- باستخدام عبوات من الأسلحة المصنوعة يدويًا مثل الرماح وقضبان من الحديد المسلح، وقطع مشحوذة من المعدن، وهي إشارة إلى أنها صنعتمحليًا في مصانع سومجاييت الصناعية قبل الهجوم.

كما ارتكبت العديد من أعمال الاغتصاب الجماعي والاعتداء الجنسي، التي جرت في الشقق وبشكل علني في شوارع المدينة على حد سواء. وصف شاهد عيان هذه الافعال والذي أكده أيضا شهود عيان في حالات أخرى كيف تم تجريد امرأة أرمنية من ملابسها ثم سحبها، وركلها في ظهرها ورأسها، وجرها في الشوارع.


كان رد فعل الحكومة السوفييتية على الاحتجاجات في البداية بطيئًا، وكان التفكير في إرسال وحدات عسكرية لفرض الأحكام العرفية في البلدة فعل غير مسبوق في تاريخ الاتحاد السوفيتي ومع ذلك قام المسؤولون الروس في أذربيجان، ممن شهد بعضهم على تلك الهجمات، بمناشدة قادة الكرملين لإرسال القوات السوفييتية إلى سومجاييت.


وفي جلسة المكتب السياسي السوفييتي في اليوم الثالث من أعمال الشغب في 29 شباط، أعرب غورباتشوف عن معارضته لاقتراح إرسال قوات التدخل لكن أعضاء حكومته، بما في ذلك وزير الخارجية ادوارد شيفرنادزه ووزير الدفاع ديمتري يازوف، وخوفًا من التصعيد بين الأرمن والأذريين، أقنعوه لإرسال قوات التدخل الى سومجاييت.


وصلت إلى سومجاييت أثنتان من كتائب قوات وزارة الداخلية ومكافحة الشغب المجهزة بشكل كبير بالهراوات أما الجنود فكانوا مسلحين بطلقات فارغة ولم يعط لهم الإذن بفتح النار، وذلك عبر حافلات وناقلات مدرعة. وبينما تحركت لتحافظ على أمن المدينة، أضحى الجنود أنفسهم أهدافًا للعصابات. 

مذبحة سومجايت


في 29 فبراير تدهور الوضع لدرجة اضطرت الحكومة السوفييتية إلى دعوة المزيد من القوات المسلحة بشدة، والتي يحق لها فتح النار. وشملت الفرقة وحدة «فيليكس جرزنسكي» التابعة للقوات الداخلية، وهي مرفقة بمشاة البحرية من أسطول بحر قزوين البحرية، وقوات من داغستان، ولواء قوات الإنزال، والشرطة العسكرية، وفوج المظلات 137 من القوات المحمولة جوا من ريازان، وقوة عسكرية مؤلفة من ما يقرب الـ 10000 رجل يرأسهم الفريق الجنرال كاراييف. 

بالإضافة إلى ذلك، تحركت الدبابات وأمرت بفرض طوق حول المدينة. وذكر الصحفي الروسي من وكالة الأخبار كلاسنوست، أندريه شيلكوف، أنه رأى ما لا يقل عن 47 دبابة وأيضًا قوات ترتدي سترات واقية من الرصاص بدوريات في البلدة.

سكوت روسي
وفي أعقاب ذلك، ألقت السلطات السوفييتية القبض على أكثر من 400 رجل لمشاركتهم في أعمال الشغب والعنف، ولم تقم وسائل الإعلام السوفييتية بتناول الحدث وبقيت صامتة إلى حد كبير، وبدلًا من ذلك ركزت على القضايا الدولية، بينما أشارت الصحافة المحلية في سومجاييت بفخر أنه لم يتم إنتاج الأسمدة المعدنية في محطات سومجاييت والتي كانت قد توقفت بسبب أعمال الشغب. وكانت الحكومة السوفييتية مترددة في الاعتراف بوقوع العنف، لكنها فعلت في نهاية المطاف وقامت السلطات السوفييتية بمنع الصحفيين الغربيين الذين سعوا للسفر إلى المدينة.


لم يتم بث صور المذبحة حتى 28 إبريل 1988 في فيلم وثائقي مدته 90 دقيقة من قبل صحفي سوفييتي هينريك بوروفيك، وجاء ذلك بمثابة مفاجأة للكثير من المشاهدين السوفييت، انتقد بوروفيك التعتيم الإعلامي الذي فرضته الحكومة السوفييتية، مدعيًا أنه كان ضد أهداف غورباتشوف التي تدعو الى المزيد من الانفتاح، وذكر إن عدم توفر المعلومات لم يجعل الوضع أفضلًا، بل جعله أسوأ..


في غضون عدة أيام بعد انتهاء المجزرة، رحل ما يقارب الـ 1200 عائلة أرمنية من سومجاييت، مقلصين عدد سكانها إلى أكثر من النصف، وساد شعور عام في جميع أنحاء المدينة بعدم الاكتراث بضحايا الأرمن، في حين أن العديد من الأذريين في سومجاييت أعربوا عن أسفهم لأعمال العنف التي تلت ذلك، وشعروا أنهم مضطرون لكي يروا أن الأرمن أنفسهم يستحقون ذلك كشكل من أشكال الانتقام للمطالبة بانفصال إقليم ناغورنو كاراباخ.


وضعت السلطات السوفييتية اللوم المباشر على الشخصيات المسؤولة في مدينة سومجاييت الذين أقيلوا من مواقعهم جميعًا.ووفقًا لأستاذ العلوم السياسية في جامعة برنستون، مارك بيسنغر، فإن مسؤولي الحكومة قاموا بـ "مراوغة" الأذريين خلال مسيرات الاحتجاج.


وهذا الشك بالأرقام السوفيتية الرسمية مدعوم بمصادر مختلفة، أولها شيلكوف (ممثل جورباتشوف) الذي وبعد زيارة سومجاييت، تأكد من أن عدد القتلى كان على الأقل 350 حيث أن العنف كان من جانب واحد. كما رفض الكاتب والمحرر البريطاني ديفيد برايس جونز النتيجة، معلقًا أن هذه الأرقام الرسمية هي على الأرجح منخفضة للغاية. 

وشاطره هذا الرأي أيضًا المؤرخ الروسي جيفري هوسكينغ الذي صرح بأنه تم قتل مئات من الأرمن، ويمكن اعتبار المذابح والاغتصاب شكلًا من أشكال الإبادة الجماعية المنهجية التي تشبه الإبادة الجماعية للأرمن التي وضعت حيز التنفيذ ضد الأرمن على يد الأتراك العثمانيين في عام 1915.

واعتقلت السلطات السوفيتية 400 رجلًا في أعقاب المجزرة، وأعدت تهمًا جنائية لـ84 شخص، وحكم على إسماعيلوف في واحدة من محطات سومجاييت الصناعية بتهمة القتل المتعمد وكان أول من يحاكم من قبل المحكمة السوفيتية العليا في موسكو في مايو 1988.

 جرائم باكو وسومجاييت


هذه هي حقيقة مذبحة سومجاييت التي أودت بحياة عشرات العائلات الأرمنية المسالمة بشكل منظم وممنهج، تلك العائلات التي ساهمت بكل فناء وإخلاص في تطوير الصناعات والإنتاج ليس في هذه المدينة فقط، بل في جمهورية أذربيجان بشكل عام. 

وجرت هذه العمليات الإجرامية الوحشية من قبل السلطات الأذرية، بدون شك، انتقامًا لمطالب شعب إقليم "ناغورنو كاراباخ" لانضمامه إلى أرمينيا، وتلت مجزرة سومجاييت عشرات المذابح الأخرى ضد السكان الأرمن في باكو وكيرواباط وغيرها.

نتائج المذبحة

قبل مذابح الأرمن في سومجاييت وكيروف آباد وباكو، حسب بيانات التعداد السوفياتي، كان يعيش 18 ألف أرمني في سومجاييت، و250 ألفًا في باكو، و48 ألفًا في كيروف آباد. وبعد المذابح، تم إخلاء المدن الأرمنية في أذربيجان من سكانها بالكامل، وكان هناك المئات من الضحايا، وأصبح نصف مليون أرمني لاجئين، وحُرموا من ممتلكاتهم.


 في 7 يوليو 1988، تبنى البرلمان الأوروبي قرارًا ينص على أن تدهور الوضع السياسي، الذي أدى إلى مذابح ضد الأرمن في سومجاييت وحالات عنف خطيرة في باكو، يهدد في حد ذاته أمن الأرمن الذين يعيشون في أذربيجان، دعا القرار السلطات السوفيتية إلى ضمان سلامة 500 ألف أرمني كانوا يعيشون في أذربيجان السوفيتية في ذلك الوقت والتأكد من معاقبة أولئك الذين حرضوا أو شاركوا في مذابح ضد الأرمن ووجدوا مذنبين وفقًا لقوانين الاتحاد السوفيتي.
وفي 14 مارس 1991، اعتمد البرلمان الأوروبي قرارًا آخر يشير إلى مذابح الأرمن في سومجاييت وباكو، ينص القرار المتعلق بـ "حصار أرمينيا وحالة حقوق الإنسان هناك" على أن "300 ألف أرمني فروا من أذربيجان (مذابح باكو وسومجاييت) يعيشون في فقر مدقع ويحتاجون إلى مساعدة فورية".


ولغاية تبرير عملياتها الوحشية ضد الأرمن تقوم السلطات الأذرية والقيادة السياسية منذ بداية الأحداث وحتى الآن مستخدمًا كل السبل المتاحة لتشويه وتزييف الحقائق التاريخية ثم تقديم صورة معاكسة للمجتمع الدولي عن الأرمن وعن قضية إقليم ناغورنو كاراباخ.


بعد أكثر من ثلاثة عقود، تبنت أذربيجان نفس طريقة العمل، في محاولة لحل قضية ناغورنو كاراباخ بالقوة، أثبتت الحرب واسعة النطاق التي اندلعت ضد ناغورنو كاراباخ في عام 2020 والعواقب الإنسانية التي مرت بها الأرمن مرة أخرى أن أسباب ومخاطر المذابح التي كانت في عام 1988 لا تزال قائمة.

حصار سكان ناغورنو كاراباخ


واليوم، منذ أكثر من شهرين ونصف، يواجه سكان ناغورنو كاراباخ أزمة إنسانية وخطر التطهير العرقي بسبب الحصار الذي تفرضه أذربيجان، اليوم، من الضروري ضمان أمن وحقوق أرمن ناغورنو كاراباخ، ولأن هو السبيل الوحيد لتحقيق الاستقرار والسلام على المدى الطويل في منطقة جنوب قوقاز.

الجريدة الرسمية