حدث في رمضان.. فتح جزيرة صقلية بقيادة أسد بن الفرات وهزيمة جيش الروم
فتح صقلية، في اليوم التاسع من شهر رمضان المعظم عام 212 هجريا قام المسلمون بقيادة أسد بن الفرات بهزيمة جيش الروم وفتح جزيرة صقلية.
جزيرة صقلية
وصقلية جزيرة بديعة في البحر المتوسط، تتبع إيطاليا سياسيا، وكانت في يوم من الأيام جزءا من تاريخ الجغرافيا الإسلامية في عصرها الوسيط، ومن هذه الجزيرة استطاع المسلمون أن يتوغلوا تدريجيا نحو الجنوب الإيطالي، ليكونوا على مقربة من روما، عاصمة البابوية الكاثوليكية في العالم.
وجزيرة صقلية هي أكبر جزيرة في البحر الأبيض المتوسط، وأكبر إقليم في إيطاليا من حيث المساحة، ولا يفصلها عن شبه الجزيرة الإيطالية إلا مَضيق بحري رفيع، وتقع بين شبه جزيرة كالابريا في أقصى جنوب إيطاليا، وشبه جزيرة الرأس الطَّيِّب في تونس.
وتقسم الجزيرة لقسمين: شرقي وغربي، وهي إحدى حلقات الوصل الكبرى بين القارتين الإفريقية والأوروبية، بل إحدى حلقات الوصل بين دول الحَوْضَيْن: الشرقي والغربي للبحر المتوسط، وذلك الموقع الجغرافي أعطاها أهمية سياسية واقتصادية وعلمية كبرى.
وتبدو على الخريطة ذات شكل مثلث، ولقد وصفها ياقوت الحموي، وقال عنها: إنَّها جزيرة ذات أرض خصبة، وذات بلدان وقرى وأمصار كثيرة، حيث ذُكر أنَّها تحتوي على ثلاث وعشرين مدينة، وثلاثة عشر حصن، هذا فضلًا عما هو مفقود منها، وكان الموقع الجغرافيّ لجزيرة صقليّة أحد المواقع التي شهدت احتكاك بين الدولة الإسلاميّة والدولة البيزنطيّة، وهذا أدّى إلى حدوث العديد من الصدمات والمعارك بينهما.
التفاصيل الكاملة لفتح صقلية
فتح المسلمون جزيرة صقلية على يد القائد أسد بن الفرات بن سنان، الذي كان من أشجع القادة؛ فقد ولّاه زيادة الله والي إفريقيا القضاء بإفريقيا، وقدمه على غزو صقلية؛ فخرج في 10 آلاف رجل، منهم ألف فارس، فلما خرج إلى سوسة ليتوجه منها إلى صقلية، خرج معه وجوه أهل العلم يشيعونه، وقد صهلت الخيل، وضربت الطبول، وخفقت البنود، قال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يا معشر الناس؛ ما بلغت ما ترون إلا بالأقلام، فاجهدوا أنفسكم فيها، وثابروا على تدوين العلم، تنالوا به الدنيا والآخرة".
ثم ركب القائد أسد بن فرات البحر عام 212هـ، في عهد زيادة الله بن إبراهيم بن الأَغْلَب الوالي على القَيْروان من قِبَل المأمون العباسي، ونزل في مدينة "فأزر" في صقلية، والتقى جيش المسلمين مع جيش الروم، وظل أسد بن الفرات يبعث في المسلمين روح الثقة والحماسة والشجاعة، ويحرضهم على القتال بالقول والفعل، فانتفض المسلمون ضد جيش الروم وقاموا بدك حصونهم واستولوا عليها، وحاصروا "سرقوسة"، وفي أثناء ذلك الحصار أصيب أسد بن الفرات بإصابات خطيرة وسال دمه على اللواء الذي يحمله حتى استشهد وفاضت روحه إلى ربها.
حين رأى الجنود استشهاد قائدهم انتفضوا ضد الروم بكل بسالة، حتى أرغموهم على الهروب، وأصبحت صقلية ملكا للمسلمين.
بعد ذلك كتب زيادة الله والي إفريقيا إلى الخليفة المأمون أن الله تعالى أتم فتح صقلية على يد القاضي أسد بن الفرات، وكان ذلك في التاسع من رمضان عام 212هـ.
سقوط صقلية في أيدي الأغالبة بمثابة طَيٍّ لصفحة السيادة البيزنطية على البحر المتوسط، والتي سعى الأمويون طويلًا لنزعها من أيدي البيزنطيين، حتى حَصَّلها الأغالبة في شمال إفريقية.
دولة الأغالبة
في العام 184هـ/800م أصدر الخليفة العباسي هارون الرشيد قراره بتولية إبراهيم بن الأغلب التميمي على ولاية أفريقية "تونس"، وجعلها في عقبه وذريته من بعده، شريطة التبعية السياسية والمالية، بإرسال الخراج المطلوب سنويا كل عام إلى بغداد، وكانت هذه السياسة اللا مركزية التي اتخذها العباسيون تنم عن حكمة كبيرة، برفع الحرج والتكاليف عن كاهل العباسيين وفي الوقت ذاته الاستفادة من هذه الولايات، طالما أعلنت التبعية والبيعة للخليفة العباسي.
خضع العرب والبربر لتقليد الولاية، ودانوا بالطاعة لإبراهيم بن الأغلب، وكان أميرا على قدر كبير من الحكمة والدُّربة السياسية، واستطاع بعد فترة قصيرة من تسلمه زمام الولاية أن يُقصي المنافسين والثوار والخارجين عن طاعته إلى العراق، وأن يعيد اللُّحمة القوية بين عناصر السكان من العرب والبربر، وقد توسعت دولته حتى وصلت إلى طرابلس الغرب "غرب ليبيا اليوم"، واستقرت الدولة له ولأبنائه من بعده.
في أواخر عام 201هـ/817م ارتقى لعرش الدولة الأغلبية في أفريقية الأمير زيادة الله بن إبراهيم بن الأغلب، وهو أعظم ملوك هذه الدولة على الإطلاق، وأعلاهم صيتا، وأبعدهم نظرا في الأمور، فقد كان قويا عنيدا، يدرك خطورة العناصر الثورية الكامنة في الجيش الأغلبي، فاستطاع قهرهم بعناصر الفرق السوادنية "الزنج" في جيشه، ثم أدرك بعد ذلك أن التوجه صوب الفتوحات والغزو هو السبيل الأفضل لدولته ولجيشه وللسكان كافة، فأمر منذ فترة مبكرة من ولايته بإعداد الأسطول، وحشد الجنود، وأمر بخروجها إلى جزيرة سردانية القريبة من صقلية، وهي يومئذ تابعة للروم البيزنطيين، فهزموهم في عدة مواقع منها، وعاد الأسطول منصورا وسط احتفالات صاخبة في العاصمة الأغلبية العباسية القريبة من القيروان.
كان زيادة الله الأغلبي وجمْع من كبار العلماء وأهل الحل والعقد مثل الإمام سحنون والقاضي أسد بن الفرات وغيرهم قد اجتمعوا لبحث مسألة غزو صقلية والاستيلاء عليها، وقد انقسم الحاضرون إلى فريقين، فريق تزعمه العلامة سحنون المالكي الذي رأى خطورة الجزيرة لقربها من الشاطئ الإيطالي، وسهولة غزوها واستئصال المسلمين منها حال ضعفهم، وتأخر وصول المدد إليهم من تونس مقارنة بإيطاليا، وفريق آخر تزعّمه زيادة الله والقاضي ابن الفرات حيث رأى أن هذه فرصة ذهبية لسحق البيزنطيين وإقامة الجهاد وتبعية الجزيرة للمسلمين، وهي الجزيرة الإستراتيجية في البحر المتوسط.
وفي نهاية المطاف، رجحت كفة زيادة الله، وجعل قيادة الجيش والأسطول إلى القاضي أسد بن الفرات وانضم لهم أشراف العرب والبربر والأندلسيين وأكابر رجال العلم والمجتمع الأفريقي، وانطلقوا من مدينة سوسة في شهر ربيع الأول سنة 212هـ/827م، ووصلوا إلى الجزيرة، فدكّوا حصونها، وسحقوا جيوشها، وأغرقوا أساطيلها، واستولوا على أهم مدنها تباعا مثل مازرة وبلاتة وقلورية.
محاصرة نابولي الإيطالية
هذه الفتوحات زلزلت القسطنطينية التي أرسل إمبراطورها دعما عسكريا وبحريا هائلا، ووصل هذا الدعم لمواجهة قوات المسلمين التي كانت تُحاصر مدينة سركوزة في قلب الجزيرة، وهناك دارت رحى معركة عسكرية كبيرة، استُشهد فيها القاضي والمجاهد أسد بن الفرات في شهر ربيع الأول سنة 213هـ/828م، وصمد المسلمون في قتالهم، وجاءهم المدد من أفريقية في أسطول ضخم قُدّر بـ 300 سفينة، واستطاعوا بعد شهور طويلة من القتال والكر والفر هزيمة البيزنطيين، والاستيلاء على واحدة من أهم وأقدم مدن الجزيرة مدينة بلِرم "بليرمو" التي دخلوها في شهر رجب سنة 216هـ/831م.
ومنذ ذلك التاريخ تتابعت الفتوحات الإسلامية في أرجاء صقلية كاملة، بل وبدءا من عام 220هـ/835م استطاعت القوات الإسلامية الانطلاق إلى جنوب إيطاليا، وحصار واحدة من كبريات مدنها "نابولي"، الأمر الذي أحدث صدمة كبيرة في الأوساط البيزنطية والرومانية على السواء، حيث توسع الوجود الإسلامي في جنوب إيطاليا حتى الاستيلاء على جزء كبير من السواحل الإيطالية الواقعة على البحر الأدرياتيكي.
سقوط دولة الأغالبة
دخلت الجزيرة بسقوط الدولة الأَغْلَبِيَّة الأُم في شمال إفريقية في عصر من الفوضى والاضطراب دام ما يزيد على رُبْع القَرْن، وانتهى باستيلاء العُبَيْدِيِّين على الجزيرة بعد أن رفض أهلها لمُدَّة الدخول في طاعتهم، فقام عبيد الله المهدي بتولية والٍ جائر ضَجَّ أهلها منه، فأَحَلَّ مَحَلَّه مَثيلًا له، مما ألجأ بعضَ ضِعاف الإيمان من أهل الجزيرة إلى الاستنجاد بالروم، والدخول في جُمْلَتهم؛ هَربًا من تَعَسُّف ولاة العُبَيْدِيِّين.
وعلى إثر تلك الأحداث قام العُبَيْدِيِّون بتولية الحسن بن علي بن أبي الحسين الكَلْبي، وخَلَفه أبناؤه من بعده، وكانوا من أَخْلَص أعوان العُبَيْدِيِّين، وظَلَّتْ الجزيرة بأيديهم مُدَّة طويلة؛ حيث تعاقب على حكمها منهم عشرة ولاة في مُدَّة خمس وتسعين سنة.
وقد وصف الدكتور إحسان عباس رحمه الله فترة حُكْم الكَلْبِيِّين لصِقِلِّيَّة بقوله شهدت في أثنائها تَقَدُّمًا في الحياة العمرانية، وفي العلوم، والآداب، كما شَهِدت جِهادهم المُسْتَمر في جنوب إيطاليا، وفي مقاومة أطماع الروم في الجزيرة، وأَخْلَدَت صِقِلِّيَّة إلى الهدوء، وجَنَتْ من ذلك خَيْرَ الثِّمار، وكان من أسباب هذا الهدوء: انْشِغال الجُنْد في أكثر الأوقات بالحروب في جَنوبي إيطاليا، وإخلاص الكلبيين في الدفاع عن صِقِلِّيَّة، واعتبار أنفسهم مُسْتَقِلِّين اسْتِقْلالًا داخليًا في شؤون الجزيرة.
أسد بن الفرات
ومما يذكر في فضل أسد بن الفرات قول الإمام الذهبي: "كان أسد بن الفرات رحمه الله مع توسعه في العلم فارسا بطلا شجاعا مقداما، زحف إليه صاحب صقلية في مائة ألف وخمسين ألفا. قال رجل: فلقد رأيت أسدا وبيده اللواء يقرأ سورة (يس)، ثم حمل بالجيش، فهزم العدو، ورأيت الدم وقد سال على قناة اللواء وعلى ذراعه، ومرض وهو محاصر سرقوسية، ولما ولّاه صاحب المغرب الغزو، قال: قد زدتك الإمرة، وهي أشرف، فأنت أمير وقاضٍ".