قطر وحكايات أبعد من الكرة
طاقة تتعدى حدود لعبة كرة القدم تلك التى أمدنا بها مونديال قطر، ولغة جديدة تعود بنا إلى عصور كانت القيم فيها محددة ومعروفة بأثرها وتأثيرها وعمقها.. لسنوات طوال طرق الغريب أبوابنا دون رد فعل كذلك الذى كان فى مونديال قطر، طرق الشذوذ بيوتنا وأسماعنا وعيوننا دون أن تكون لنا قدرة على رد فعل يليق بما كرمنا به الله، وها نحن قد وقفنا فى وجه العبث بقيم أدياننا: الإسلام والمسيحية واليهودية.
وعندما ظن البعض، وبعضنا كثير، أن قضيتنا الأم تاهت فى دروب العم سام والغرب المتغطرس بقوته وغشمه وجبروته.. ها قد عادت فلسطين فى قلب الأحداث.. فلسطين حرة، نطق بها الغربيون البسطاء والعرب التائهون وأبناء أمريكا اللاتينية الداعمون والأفارقة رفقاء الدرب.
وطاردوا مذيعا ينتمى إلى الكيان المحتل حتى تبرأ من انتمائه وأعلن أنه من دولة الإكوادور مرة، ومن دولة كذا أكثر من مرة، شعر المحتل أنه محاصر هناك فى المونديال.. وصلت رسائل القيم النبيلة التى آمنا بها على طول التاريخ وعرضه فى مدرجات لعبة كرة القدم. ليس مسابقة فى لعبة، وإنما تعدت حدود ذلك إلى نضال من نوع خاص.
أما ذلك العربى المنبوذ، فقد ظهر على مسرح الحياة ليقدم نفسه وتاريخه ويدهش الجميع، يكرم ضيفه ويقدم أروع لمسات التطور القيمى والدينى والأخلاقى خارج المدرجات وداخلها، فى الفنادق والشوارع والميادين وعلى الشواطئ.
ماذا فعل بنا مونديال قطر؟
يفرض العربى إيمانه وقوانينه على الجميع، ويحارب من زاوية الملعب كل قيم العولمة التى تصورت أنها استقرت فى وجداننا ليعود العربى عربيا بكل ما ورثه من قيم وتقاليد أعجبت الجميع، بل قلدوها.
ارتدى مرتادو الملاعب ملابس عربية، وأكلوا طعاما عربيا، وتنفسوا هواء عربيا، وتنسموا قيما وتقاليد عربية، وعاشوا معنا كما نعيش دون ضجر أو ملل أو اعتراض.
وخرج كل من حمل لواء هدم الإنسانية بقيم معاداة الفطرة إلى الهامش، فلم يكملوا المشوار لا رياضيا ولا اجتماعيا، لفظهم الجميع إلى سياق يليق بهم وبما جاءوا به.. لم يكن المونديال لمسابقة رياضية، بل كان معركة بين الخصوصية الثقافية والانصهار فى عالم متوحد القوالب والمعانى والتقاليد. لم يكن مسابقة فى كرة القدم، كان معركة حامية الوطيس انتصر فيها الحق وزهق فيها الباطل.
قرابة الملايين الأربعة جاءوا من بلاد بعيدة ليروا أرضا عربية لا تزال تحمل على ثراها نموذجًا إنسانيا مغايرًا لكل ما أراده الغرب بصولجانه وجبروته وظلمه. ومئات الملايين التى تابعت عرضًا أخلاقيا جديدًا عليها أو متناسقًا مع فطرتها التى أرادت جماعات الشذوذ اختطافها ليعلموا الطفل ما ينافى فطرته التى فطره الله عليها.
وعلمنا مونديال قطر أن الدم العربى لا يزال يسرى فى عروقنا عندما حبست أنفاسنا مع أبنائنا من المملكة العربية السعودية وهم يصنعون نصرا عظيما على إمبراطور كرة القدم الأرجنتين. وكم تضرعنا إلى الله ونحن نرى أنفسنا داخل المستطيل الأخضر مع أبناء تونس الخضراء وهم يهزمون فرنسا وينحتون رمزًا يوقظ داخلنا كل سنوات النضال من أجل التحرر.
وكم سهرنا وسهرت شوارعنا وحوارينا وأزقتنا وهم يغنون وينشدون أهازيج النصر دعما ومساندة للمغرب الذى تحمل أبناؤه على عاتقهم صنع المجد لأمة تستحق ما هو أفضل.. ماذا فعل بنا القطريون؟ وماذا فعل بنا مونديال قطر؟ مُحيت من ذاكرة الكون صورة العربى الجاهل، ونحت فى وقعها حكايات إنسانية راسخة تروى قصة العربى النبيل.
أعاد مونديال قطر للعروبة دماءها مهما فعل بنا الحكام، ومهما فعلت بنا السياسة والساسة، أعاد للقضية الفلسطينية روحها وحيويتها وحياتها ونضالها، وأرعب كل من تصور أنها قضية منسية.. شكرا لكرة القدم التى حققت لنا انتصارات لم نكن نحلم بها كما رأيناها، لعبة أعادت إلينا الحبل السرى وسر وجودنا، ومحت من على الخريطة حدودًا صنعها المحتلون ورسخوها فلم تقوَ، وانهارت كما لم تنهَرْ من قبل.