نهاية اتفاقية كوينسي.. السعودية تخرج من عباءة أمريكا وتطوي عهد النفط مقابل الأمن.. ومخاوف من التحالف مع الروس
«ستواجهون العواقب.. ونحن لن نقبل الإملاءات».. هذه العبارات كانت ملخص حرب تصريحات وبيانات متبادلة بين الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة العربية السعودية، الأولى هددت على لسان رئيسها جو بايدن وعناصر فاعلة فى إدارته الرياض بعواقب وخيمة من بينها رفع الحماية العسكرية وسحب القوات ووقف مبيعات الأسلحة، والأخيرة يبدو أنها أدركت درس التاريخ وشرعت فى ظل قيادة جديدة تتملكها روح الشباب فى تقوية العلاقات مع قوى أخرى فاعلة "روسيا والصين"، وقررت الخروج من عباءة الأمريكان.
أصل الخلاف
الخلافات بين البلدين ليست وليدة قرار أوبك+ بتخفيض إنتاج النفط بمعدل مليونى برميل يوميا، بالمخالفة للرغبة الأمريكية التى طالبت دول المنظمة وتحديدا السعودية بزيادة الإنتاج لتعويض احتياجات السوق نتيجة فرض العقوبات على روسيا عقب غزوها لأوكرانيا، فجذور الأزمة المكتومة فصولها بدأت مع الرئيس الديمقراطى الذى تعهد إبان حملته الانتخابية بتحويل المملكة إلى «دولة منبوذة»، وأعلن صراحة رفضه مصافحة ولى العهد الأمير محمد بن سلمان أو التحدث معه.
صحيح أن الشح فى سوق الطاقة الناتج عن حرب روسيا وأوكرانيا وتهديد أوروبا بشتاء قارس نتيجة نقص إمدادات النفط والغاز، دفع بايدن لإرسال عناصر إدارته إلى السعودية للمطالبة بتعويض عجز الإنتاج فى الأسواق، وبعدما فشلت تلك الزيارات فى دفع المملكة للتراجع، سحب رجل البيت الأبيض وعوده، وذهب فى زيارة اعتبرتها إدارته تحمل أهمية قصوى إلى جدة، وصافح ولى العهد وترك الملك سلمان المساحة لنجله بهدف إظهار قوته كـ«ملك مستقبلى»، وتولى قيادة المباحثات مع الضيف الأمريكى، علاوة على ترؤسه أعمال قمة جدة بمشاركة الرئيس الأمريكى وحضور دول مجلس التعاون الخليجى، إضافة إلى مصر والأردن والعراق.
التقارير الأمريكية التى تبعت زيارة بايدن أفرطت فى الآمال المستقبلية حول رضوخ ممالك النفط الخليجية لمطالب واشنطن، وعولت جميعها على فكرة الهواجس من رفع الحماية العسكرية تلك العقدة التى ورثتها الإدارة المختلفة للبيت الأبيض منذ «اتفاق كوينسي» الموقع فى 14 فبراير 1945 على متن طراد يو إس إس كوينسى (CA-71) بين الملك عبد العزيز آل سعود مؤسس المملكة العربية السعودية والرئيس الأمريكى فرانكلين روزفلت، والتى تنص على توفير الولايات المتحدة الحماية اللامشروطة للسعودية، مقابل ضمان المملكة لإمدادات الطاقة التى تريدها واشنطن.
وكان من المقرر أن يدوم هذا الاتفاق 60 سنة، وتم تجديد محتوى اتفاقياته لنفس المدة فى 2005 من قبل الرئيس جورج دبليو بوش.
العقلية الأمريكية القديمة فى التعامل مع دول المنطقة أعمت بصيرتها عن المتغيرات الإقليمية والدولية وسطوح شمس قوى جديدة مثل روسيا والصين، وهو ما كان بعدما عززت الرياض تعاونها مع تلك القوى خلال السنوات الماضية، سواء على صعيد التعامل الدبلوماسى أو الاقتصادي، وحتى العسكري.
أوراق بايدن
فى المقابل قرر الرئيس الأمريكى القادم، معاقبة السعودية، وحسب ما كشفت شبكة «سى إن إن» الأمريكية، بدأ مناقشات مع أعضاء ومساعدى الكونجرس حول الكيفية التى يمكن أن تفرض بها الولايات المتحدة عواقب على المملكة، بعد قرار المملكة الشراكة مع روسيا فى قطاع إنتاج النفط.
بعض الأفكار التى تمت مناقشتها تشمل: إعادة نشر أسطول طائرات F-16 الأمريكى خارج السعودية، ووقف استمرار المساعدة العسكرية الأمريكية للبلاد، ودعم الإدارة للتشريعات التى من شأنها عدم حماية أوبك من دعاوى مكافحة الاحتكار الأمريكية للتواطؤ فى تثبيت أسعار النفط، وتحريك ملف حقوق الإنسان بالداخل، واستغلال ملف حرب اليمن، وأخيرا ذهب مشرعون ديمقراطيون للمطالبة بوقف مبيعات الأسلحة للرياض.
وأحد الخيارات التى تتم مناقشتها داخل معامل السياسة الأمريكية هو مشروع قانون «نوبك» الموجود حاليا فى مجلس الشيوخ، وهدف القانون إلى تفكيك منظمات إنتاج وتصدير النفط، وتغيير قانون مكافحة الاحتكار فى الولايات المتحدة، حيث سيلغى الحصانة السيادية التى تحمى «أوبك»، وشركات النفط الوطنية التابعة لها من الدعاوى القضائية.
وسيمنح القانون المدعى العام الأمريكى سلطة مقاضاة «أوبك»، أو أعضائها مثل السعودية أو شركائها مثل روسيا، فى محكمة اتحادية بتهم تشمل التلاعب بالسوق.
التسريبات المتعمدة حول الخطوات التصعيدية التى شملت تجميد حوار مع الرياض حول خطر إيران فى المنطقة كان مقررا له منتصف أكتوبر الجارى، دفعت هيئة تحرير صحيفة «وول ستريت جورنال» لانتقاد الأصوات الأمريكية الداعية إلى معاقبة المملكة، وقالت: «إنه بقدر ما تبدو الأمور سيئة للسعودية، سينطوى ذلك على ضرر الاقتصاد الأمريكى ودفع حلفاء واشنطن أكثر إلى ذراعى روسيا والصين».
ورأت الصحيفة أن قانون «نوبك» لن يترك أثرًا كبيرًا على أسعار النفط، لكن من شبه المؤكد أنه سيستدعى انتقامًا من الشركات الأمريكية.
وسخرت فى سياق آخر مما أسمته «العصف الذهنى المذهل» للنائب رو خانا، والسيناتور ريتشارد بلومنثال اللذين اقترحا وقف بيع الأسلحة الأمريكية إلى السعوديين على مدى عام، مؤكدة أن المقترح حال تمريره والموافقة عليه سيحرم شركات السلاح الأمريكية من العائدات، ويشجع السعوديين على تأمين بديل لموردى الأسلحة والتعاقد مع أسواق منتجة جديدة.
كما برزت انتخابات التجديد النصفى المقرر لها شهر نوفمبر المقبل ضمن فصول الأزمة الحالية، وكشفت صحف أمريكية، أن إدارة بايدن طلبت من أوبك+ تأجيل قرار خفض الإنتاج لمدة شهر واحد، خوفا من تأثير حالة التضخم التى تعانى منها واشنطن، وسحبها من مخزون النفط الإستراتيجى، على مزاج الناخب الأمريكى وخسارة الديمقراطيين مقاعدهم لصالح الجمهوريين.
واتهمت واشنطن صراحة الرياض بالوقوف خلف رفض الطلب الأمريكى، واتهمت ولى العهد السعودى، بتحريض أعضاء المنظمة على قرار التأجيل، ونسبت له تصريحات قال فيها: إنه ليس على استعداد للتضحية بالكثير من أجل إدارة بايدن ودعمها فى الانتخابات.
تسريبات البيت الأبيض
وكان البيت الأبيض عزز هذا التسريبات، وقال نهاية الأسبوع الماضى: إنه يرى أن السعودية هى التى دفعت باقى دول أوبك+ لاتخاذ قرار بخفض الإنتاج، وزعم حينها المتحدث باسم مجلس الأمن القومى الأمريكى، جون كيربى، أن أكثر من دولة عضو فى منظمة أوبك عارضت مسعى السعودية لخفض الإنتاج، وأن تلك الدول شعرت بأنها مدفوعة للتصويت ورفض الكشف عن تلك الدول.
الخلاصة، أن اختبار ضغط للعلاقة الأمريكية السعودية كشف الكثير من المتغيرات الدولية والإقليمية، التى تشكلت عقب الصدام الغربى مع روسيا، وشعور الجميع بأهمية دول المنطقة سياسيا واقتصاديا، لدرجة أن دولا خليجية بما تملكه من نفوذ نفطى ومالى باتت قوى فاعلة ولوبيهات ضغط بالداخل الأمريكى توجه دفة اختبار أعضاء الكونجرس، وربما الرئيس شخصيا، وفى حال فوت الإقليم الفرصة الآن والتزم بمعاهدات واتفاقات وتحالفات تسميها واشنطن إستراتيجية لكنها تتخلى عن مسمى الشريك وقت الصدام وتتعامل بمنطق الكفيل.
والتعامل مع الدول العربية بنظرية الأقطاب وفرض تحالفات عليها سيفقدها توازنها فى تحقيق مصالحها القومية ومصالح شعوبها لصالح قوى عظمى تريد تحول الجميع لمجرد شرايين تغذية لجسدها الذى لا يتوقف عن ابتلاع كل شيء لتقوية قبضتها وحماية شعبها قبل الجميع.
فى ظل وضع العالم أجمع فوق عجلة الحركة السريعة، أصبحت لا حاجة ماسة لأمريكا التى تخلت عن الموقف العربى فى القضية الفلسطينية، وذهبت للتحاور مع إيران دون وضع شواغلها فى الحسبان، حتى التهديد بوقف مبيعات الأسلحة للمملكة التى بلغت 63 مليار دولار وفقا لآخر إحصائية صدرت فى نوفمبر 2021 تدل على مدى استفادة واشنطن من هذا السوق.
سوق السلاح فى العالم بات أكثر رحابة وفاعلية عن الماضى، ودول المنطقة لا مشكلة لديها فى تنويع خياراتها، هذه الأسواق الجديدة كبدت واشنطن خسائر بالمليارات، الأمر الذى دفع البنتاجون نهاية شهر سبتمبر الماضى لتشكيل فريق عمل من كبار المسئولين، أطلقت عليه وزارة الدفاع الأمريكية «وحدة النمر» لفحص أوجه القصور المستمرة فى مبيعات السلاح وتنشيطه ..والشاهد هنا أن أمريكا المتورطة فى دعم أوكرانيا بأسلحة وعتاد بمليارات الدولارات فى سياق حربها الباردة مع روسيا، ووضعها الصين كدولة مهددة لها، هى من تحتاج العرب وليس العكس.
نقلًا عن العدد الورقي…،