رئيس التحرير
عصام كامل

صلاح عيسى.. جبرتي الصحافة داخل الزنزانة 14.. وأحداث شقة العجوزة ووحدة الشيوعيين “أبرز المحطات في حياته”

الكاتب الصحفي صلاح
الكاتب الصحفي صلاح عيسى وزوجته

«صباح الخير يا جميل».. يقولها لأمن الجريدة القابعين أمام البوابات، يسير بعدها بخطوات هادئة في ممر طويل داخل حديقة كلاسيكية للمركز القومى للمسرح والموسيقى والفنون الشعبية، حتى يصل في نهايته إلى مبنى أبيض على طراز الخمسينيات من القرن المنصرم، وهناك يكررها أيضًا لتلامذته من صغار الصحفيين: «صباح الخير يا جميل». 

يطمئن على قطة لازمت المكان، ويتساءل: هل أطعمها أحد؟ يصعد ببطء إلى الطابق الثانى حيث مكتبه الذي لم يغلق بابه أبدا.. صلاح عيسى، المؤرخ والصحفى الكبير، رئيس مجلس إدارة جريدة القاهرة الثقافية، والأمين العام للمجلس الأعلى للصحافة سابقًا، الذي وافته المنية، مساء الإثنين ٢٥ ديسمبر ٢٠١٧، بمستشفى المعادى العسكري، إثر تدهور حالته الصحية، عن عمرٍ ناهز الـ٧٨، قضى منها نحو ٦٠عامًا بين النضال والاعتقال والصحافة والتأريخ.

صلاح عيسى "14أكتوبر 1939" من الأقلام الكبيرة التي خرجت من الفضاء المصري، للانضمام إلى السرب الكبير الذي ملأ الأفق العربى طوال عقود. بدأحياته باحثًا في أوضاع الريف، ولم يتخل يومًا عن شكاوى مصر، حتى سخريته الحادة استخدمها في إبراز مآسى المصريين، والبحث عن حلول لأزماتهم.

اليسارى المقرب، لم يكن حديثًا عابرًا بل كان استثنائيًا، ربما لم ينصفه الماضي، ولعلَّ المستقبل يحمل له المزيد من الاحتفاء والتكريم.. سنوات عجاف قضاها بين وحشة سجون عبد الناصر والسادات.. كان من القلة التي لديها ملفٌّ متخمٌ في مباحث أمن الدولة، وكان يتفاخربهذا السجل، واعتبر أن تجربة السجن خط مهم في مسيرته، فهى من ناحية مكنته من تأسيس علاقات وطيدة مع كل أجيال العمل الوطني،ومن ناحية أخرى أعطته الوقت ليؤلف الكتب التي لم يجد الوقت لإنجازها. 

 شقة العجوزة

وانضم صلاح عيسى للتنظيم السياسي «وحدة الشيوعيين»، يقول سيد محمود، رئيس تحرير جريدة القاهرة الأسبق، وأحد المقربين من عيسى: “كان معظم أعضاء هذا التنظيم من رواد شقة العجوزة، التي تمثل بحضورها الكبير في مسيرة هذا الجيل، علامة مميزة، وكان روادها خلطة جامعة لتشكيليين وأدباء أفذاذ ونقاد لامعين، من أمثال عز الدين نجيب، وجميل شفيق، وإبراهيم الدسوقى فهمي، وسيد خميس، وسيد حجاب، وآدم حنين، وعلاء الديب.. وكل هؤلاء كانوا يلتقون في مقهى “إيزافتش”، الذي خلد الأبنودى جرسونه الشهير “عم جمعة”، في قصيدة معروفة”.

يستطرد: “كانوا كلهم يلتفون حول الناقد الأردنى “غالب هلسا” والناقد المصرى إبراهيم فتحي، ومعهم خليل كلفت، وجمال الغيطانى،ويحيى الطاهر عبدالله، وصبرى حافظ، ومحمد إبراهيم مبروك، ومحمد عبد الرسول، الذي ارتبط بصداقة مع صلاح عيسى، بحكم عملهما معا في وزارة الشئون الاجتماعية.. الجميع كان منشغلًا وقتها بمؤلفات ماركسية رائجة، ويقومون بنسخها، إلى جانب التطرق للأوضاع السياسية في مصر، ويوم أن نشرت “الأهرام” قرار حل الحزب الشيوعى المصرى في أبريل من عام 1965، صرخ أحدهم: «سأقاضى الحزب، أين ذهبت اشتراكاتي؟ هل ستؤول للاتحاد الاشتراكي؟ !”.

يوميات شيوعى في المعتقل

سعيد الحظ هو من يسجن مع هذا الساخر البشوش.. يقول الدكتور أحمد الخميسي، أحد رفاق صلاح عيسى في فترة الاعتقال الثانية ١٩٦٨م بليمان طرة والذي قضى فيه عامين: “كان صلاح شجاعًا وجميلًا وقويًا، يشيع التفاؤل بيننا بضحكاته وإنسانيته في الأماسى حين نجتمع حول البُرش المحشو قشًا، لنتذكر فيلمًا، أو نستمع لقصة كتبها زميل”.

 الزنزانة 14

في  الزنزانة  رقم 14 في سجن ملحق مزرعة طرة، التقى صلاح عيسى بالعديد من وجوه العمل الوطنى على خلفية اعتقالات سبتمبر،أبرزهم فتحى رضوان، يروى «عيسى» لسيد محمود أيضا، قصة دالة على صلابة هذا الرجل، الذي رفض أن يفتش تفتيشًا ذاتيًا في السجن، لأن الضابط المكلف جاء بحثًا عن قلم تم تهريبه لهؤلاء المشاغبين.

في السجن تولى صلاح عيسى مسئولية الإعاشة، مسئولية تحملها عن زملاء الزنزانة؛ فؤاد سراج الدين، رئيس حزب الوفد آنذاك، وعبدالسلام الزيات، نائب رئيس الوزراء السابق في عهد السادات، خلال “الحبسة” قيَّم صلاح عيسى تجربة حزب الوفد في الحركة الوطنية،مستغلًا وجود فؤاد سراح الدين، حيث نشأت بينهما صداقة رغم اختلافهما الأيديولوجي، وبالفعل أصدر كتاب “محاكمة فؤاد سراج الدين باشا”.

النكسة.. النقطة الفارقة

“لم أجد مهربًا من الأحزان التي غزت قلوبنا والمرارة التي ملأت حلوقنا إلا بالعودة إن تاريخ الوطن، اقرأ عنه وأكتب فيه، محاولا أن أنشِّط الذاكرة الوطنية، كى أتذكر وأذكِّر غيري، بأن ما حدث في ١٩٦٧ ليس محاق التاريخ، فلا هي أولى الهزائم، ولن تكون آخرها، المهم أن الوطن ظل قادرًا على امتداد تاريخه على أن يواصل مسيرته في الطريق إلى غد أكثر عدلا وحرية».. هكذا آزر نفسه ووطنه عقب هزيمة ١٩٦٧م، أزال آثار العدوان فكريًا، ووجد أرضا تصلح لأن تقف عليها وتؤسس لخطابها البديل.

أزمة فجرت بداخله، المؤرخ والحافظ لذاكرة هذا الوطن، فكانت «الثورة العرابية، حكايات من مصر، حكايات من دفتر الوطن، ومثقفون وعسكر، رجال ريا وسكينة، ودستور في صندوق القمامة.. والقائمة تطول”.

 

الجريدة الرسمية