بردة البوصيري.. 800 عام في مدح النبي.. سطرت أبياتها على جدران المساجد والمنازل تبركا بها
مع الاحتفال بالمولد النبوي تقفز إلى الذاكرة دائمًا وأبدًا قصيدة "البردة" للإمام البوصيري؛ باعتبارها أيقونة المدح النبوي والكنز الذى لا ينفد، بما تتضمنته أبياتها من أعاجيب المدح وعظيم الوصف للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.
هامَ فى "البردة" أهل التصوف؛ فشرحوها، وشَطَّروها، وخمَّسوها وسَبَّعوها، وعارَضوها، ونَظَموا على نَهْجِها، حتى بلغتْ شُروحُها والكتُب التى تَكلَّمت عنها العَشَرات.
ولم تَقتصرْ على اللغة العربية، بل جاءتْ بلغات مختلفة، وغَلَوْا فيها، حتى جعل بعضُهم لأبياتِها بركة خاصةً، وشفاءً من الأمراض، بل مِن كَتَبةِ الأحجبةِ والتَّمائم مَن يَستخدم لكلِّ مرضٍ أو حاجة بيتًا خاصًّا؛ فبيتٌ لمرَض الصرع، وآخر للحِفظ من الحريق، وثالث للتوفيق بين الزَّوْجين وهكذا! كما كانت البُردة- وما تزالُ- عند بعضِ الناس من الأوراد التى تُقرأ فى الصَّباح والمساءِ فى هَيبةٍ وخشوع، وأبياتُها تُستعمل إلى اليومِ فى الرُّقَى، وتُتلَى عند الدفن، وقد وضَعوا لها شُروطًا عند قراءتها، كالوضوءِ واستقبالِ القِبلة وغيرِ ذلك، كما عارض البردة شعراء كثيرون أبرزهم: أمير الشعراء أحمد شوقي، كما تغنى بها منشدون ومطربون كثيرون من مصر وخارجها، وحققوا من خلالها الشهرة والانتشار خلال أكثر من ٨ قرون متصلة.. وهو ما نلقى عليه الضوء فى السطور التالية.
حكاية البردة
كان البوصيرى أول مَن ابتكر فن المدائح النبوية، فزاد فيه وأطال، وبرغم أن كعب بن زهير سبق الإمام البوصيري فى مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن قصيدة البردة للبوصيرى تُعد من أروع قصائد مدح النبي صلى الله عليه وسلم، التى رددها، بل عشقها وتغنى بها الكثير من الشعراء والعامة، ورددها المحبون فى مجالس ذكرهم.
«محمد سيد الكونين والثقلين والفريقين من عرب ومن عجمِ // نبينا الآمر الناهي فلا أحد أبر فى قولِ لا منه ولا نعم //هو الحبيب الذى تُرجى شفاعته لكل هولٍ من الأهوال مقتحم» كلمات تطرب الآذان، سُطرت على جدران العمائر القديمة ونقشوها على المجلدات فطهرت النفوس، وازدانت جدران المساجد والبيوت بكتابات ونقوش تحوى أبياتا من البردة، وكان هذا تقليدا متبعًا فى العصور الإسلامية.
عاش الإمام البوصيرى فى العصر المملوكى، أى بعد حوالى 600 عام من ظهور الإسلام، وكتب قصيدته المشهورة "البردة" من باب المحاكاة لقصيدة كعب بن زهير فى مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يحكى أن الشاعر الجاهلى كعب بن زهير بن أبى سُلمى هجا الإسلام والمسلمين بعد فتح مكة، وعندما أسلم جاء تائبًا نادمًا، ونظم قصيدة يمدح فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعلن إسلامه، وقال فى قصيدة نظمها: بانت سعاد فقلبي اليوم متبول ..متيم إثرها لم يفد مكبول ** وقد نبئت أن رسول الله أوعدنى.. والعفو عند رسول الله مأمول فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلع عليه بردته، ومن هنا عُرفت القصيدة بالبردة، بحسب كتاب "سيرة المماليك" لجيهان مأمون.
وُلد الشيخ الإمام شرف الدين أبو عبد الله محمد بن سعيد بن حماد الصنهاجى، واشتهر بالإمام البوصيرى، فى عام ٦٠٨ بإحدى قرى بنى سويف، وينتسب إلى مدينة أبى صير لأمه، وكان البوصيرى فى أول حياته العملية يتولى الكتابة على الجبايات "الضرائب" فى بلدة بلبيس، لكن عدم أمانة المشتغلين معه فى الوظيفة جعلته يزهد فى الوظائف الحكومية، ويزهد متع الحياة، ويلجأ لحياة التصوف، وفر من بلبيس إلى الإسكندرية حيث صحب أبا العباس المرسى.
رؤية النبي صلى الله عليه وسلم
كانت لقصيدة "البردة"التى نظمها الإمام البوصيرى حكاية غريبة، يقال إن الإمام البوصيرى أصيب بإعاقة فى جسده "الشلل" ففكَّر فى عمل قصيدة لمدح الرسول صلى الله عليه وسلم، مستعينًا بحبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فى طلبه من الله الشفاء من سقمه، لعل الله أن يشفيه، فبدأ قصيدته فى حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أتمها رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى منامه يمسح بيده الكريمة عليه فى منامه ويلف عليه بردته، أى عباءته، فقام من منامه معافى، وشفاه الله من سقمه.
وقد اشتهرت قصيدة البوصيرى أيضًا بالبرأة، وذلك لأن ناظمها برئ بها من مرضه «الشلل»، وسميت أيضًا بـ"الكواكب الدرية فى مدح خير البرية".
ما حدث بعد ذلك كان أغرب، فبعد مرور بعض الوقت لقى الإمام البوصيرى رجلًا فقيرًا فقال الرجل للبوصيرى: أين القصيدة التى مدحت بها النبى؟، فرد عليه البوصيرى:" أى قصيدة تريد؟"، فقال له الرجل: التى مطلعها أمِنْ تذَكُّرِ جيرانٍ بذى سلمِ.. مزجتَ دمعًا جرى من مقلة بدمِ.. تعجب البوصيري! وقال له: كيف عرفت بها! وأنا لم أنشدها للناس بعد؟، فقال له الرجل الفقير: رأيت النبي فى منامى وأخبرنى بها ..من كتاب «البردة للإمام البوصيري» إعداد الشيخ إبراهيم الباجورى.
وكانت بردة البوصيرى سببًا مباشرًا فى ميلاد فن البديعيات فى العصر المملوكى، التى يلتزم فيها الشاعر بقافية بسيطة، وتشير المراجع إلى أنها مكونة من ١٦٠ بيتًا، قُسمت إلى فصول فى الغزل وشكوى الغرام ١٢ بيتًا، والتحذير من هوى النفس ١٦ بيتًا، وفى مدح النبى صلى الله عليه وسلم ٣٠ بيتًا، ومولده الشريف ١٣ بيتًا، وفى معجزاته ١٦ بيتًا، فى شرف القرآن الكريم ومدحه ١٧ بيتًا، وفى إسرائه ومعراجه ١٣ بيتًا، وفى جهاد النبى ٢٢ بيتًا، وفى التوسل بالنبى صلى الله عليه وسلم ١٢ بيتًا، وفى المناجاة وعرض الحاجات ٩ أبيات.
قال الشهاب بن حجر عن البردة: كان البوصيرى من عجائب الله فى النظم والنثر، عمل بالكتابة والتأليف واشتهر بين شعراء القرن السابع الهجرى بشعره الصوفى فى حب الله تعالى ومدائحه النبوية التى امتازت بالحس المرهف وقوة العاطفة وجمال التعبير، كما تأثر الشاعر أحمد شوقى فى قصيدته "نهج البردة" بالإمام البوصيرى.
وقال زكى مبارك فى كتابه "المدائح النبوية" عن البردة :إن الإمام البوصيرى لما أنشأ هذه القصيدة رأى النبي صلى الله عليه وسلم فى المنام فأنشدها بين يديه إلى أن بلغ قوله: "فمبلغ العلم فيه أنه بشر ثم توقف" ولم يتمكن من إكمال البيت، فأكمله له النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له قل: "وأنه خير خلق الله كلهم".
الشعراوي والبردة
يحكي الشيخ عبد العظيم العطواني، أشهر من أنشد وتغنى بقصيدة البردة للإمام البوصيرى، فى إحدى حواراته، أنه فى فترة السبعينيات من القرن الماضى كان ينشد البردة بمسجد الحسين، وسمعه الشيخ الشعراوى، وأعجب به جدًّا، ودعاه بعدها إلى بيته كى ينشد له القصيدة وسط ضيوفه، ودعاه إلى مجلس خصَّصه للبردة فى ساحته بجوار مسجد السيدة نفيسة، وكان يعلق على القصيدة ويشرح للحاضرين بعض ما يصعب عليهم من معانيها، وأصبح ملازمًا له مدة خمسة عشر عامًا، وكان يأخذه معه فى رحلات العمرة، وأنشأوا مجلسًا للبردة فى ضيافة د.محمد عبده يمانى، وزير الإعلام السعودى الأسبق، وبعض الأمراء.
وذات يوم أصاب الشيخ الشعراوى وعكة صحية بالأراضى الحجازية، ودخل على إثرها إلى المستشفى، فذهبت للاطمئنان عليه، فقال العطوانى: عندما رآنى خلع خراطيم الأكسجين من فمه، وقال لى: تعال يا عطوانى لقد رأيت البارحة فى منامى الإمام البوصيرى يقبلك فى جبهتك.
وحكى نجل خالد محمد خالد واقعة لوالده مع صديقه الحميم الشيخ محمد الغزالى، حين هاتفه الغزالى ليطمئن على صحته، ثم نصحه بقراءة بردة البوصيرى فإنه يُستشفَى بها على حد قوله.
"نعم سرى طيف من أهوى فأرقنى.. والحب يعترض اللذات بالألم"، وحكى الدكتور أحمد عمر هاشم أنه كتب قصيدته على نهج البردة بعدما قال له أحد أهل المدينة المنورة، أثناء خروجه من زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم: ستكتب نهجا يكون له القبول للبردة، وعندما عاد إلى مصر أقسم له أحد الأشخاص بالله «أن الرسول جاءه فى المنام وقال له إنك ستكتب نهجا لبردة البوصيري»، ليكتب نهج البردة فى الطائرة أثناء رحلة حجِّه، وعندما نزل من الطائرة أخبروه أنه فى ضيافة خادم الحرمين، فقال: "أدركت أنها رسالة من الله بفضل ما بدأته فى كتابة نهج البردة".
نقلًا عن العدد الورقي…،