شيخ الأزهر: مظاهر رحمة النبي محمد تستعصي على العد والحصر والإحصاء
قال الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف إن مظاهر رحمة النبي صلى الله عليه وسلم تستعصي على العد والحصر والإحصاء، وكان لهذه الرحمة فضل على التاريخ حين أنقذت بعثة نبي الإسلام أمما كانت على وشك الاحتضار أو الانتحار، واسألوا دولة الفرس والدولة الرومانية، وأوروبا الشمالية، ومصر والهند وجزيرة العرب، وقارنوا أحوالها وقت المبعث، بأحوالها بعد وفاته صلى الله عليه وسلم بعقد واحد أو عقدين من الزمان، فهناك سوف يتضح الفرق ويصدق القرآن الكريم والحديث الشريف، كما إن رحمة النبي لم تقبض يدها عن مستحقيها من المسلمين ومن غير المسلمين، حتى ممن ناصبوه العداء وأظهروا له الكراهية والبغضاء، وآذوه في بدنه وفي أسرته وفي سيرته وعرضه، ولم يكتف بالعفو والصفح والمغفرة بل كان يزيد على ذلك ويقول: «اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون».
وبيّن شيخ الأزهر خلال كلمته في احتفالية وزارة الأوقاف المصرية بذكرى المولد النبوي الشريف أن الضعفاء من أصحابه ومن غير أصحابه هم أحق الناس برحمته وحنانه واهتمامه، فكان يوصي أصحابه بخدمهم ويقول: «أطعموهم مما تأكلون، وألبسوهم من لبوسكم، ولا تعذبوا خلق الله عز وجل، فإن كلفتموهم فأعينوهم»، وكان ينهي أصحابه أن يقولوا عن خدمهم: عبدى وأمتي، ويذكرهم بأن الكل عبيد الله وإماؤه، وأن الصحيح أن يقال: فتاي وفتاتي، وكان يوصي بإعطاء الأجراء أجرهم قبل أن يجف عرقهم، وكان يوقر الكبير ويرحم الصغير، وكان رحيما بالأطفال، وقد نالت البنات من رحمته فوق ما ناله الأبناء الذكور مخالفا بذلك ما تعاهد عليه مجتمعه وتعارف من تفضيل الابن على البنت، وكان يقول: «من عال جاريتين (أي: بنتين) حتى تبلغا، جاء يوم القيامة أنا وهو وضم أصبعيه».
وأضاف الإمام الأكبر أنه حين الحديث عن رحمته -صلى الله عليه وسلم- بالأيتام فحدث ولا حرج، فمن يقرأ سورة الضحى، ويتأمل في قوله تعالى: "فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ"، يعجب لهذا الدين الذي يفتتح تعاليمه وتوجيهاته بأوامر تحمي اليتيم والفقير السائل، أو قل: تحمي الضعيف من انتهاك حرمته وجرح مشاعره، وتأمل مثل ذلك في سورة الماعون، واستعرض آياتها الأولى: أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَٰلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيم * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِين، ثم تساءل عن المكذب بالدين وعن أبرز صفاته وعلاماته، مبينًا بأن المكذب بالدين هو الذي يدفع اليتامى بعنف، ويقبض يده عن إطعام المساكين، كما أن الذي يكذب بالدين هو -أيضا- الذي لا يخف لمساعدة الجار والقريب حتى لو كانت المساعدة بأهون الأمور وأقلها شأنا.
وبيّن أنه -صلوات الله وسلامه عليه- كان يحب الفقراء والمساكين ويخصهم بالكثير من رعايته ورحمته، وكان من دعائه: «اللهم أحييني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين يوم القيامة»، كما كان صلى الله عليه وسلم يحث أصحابه على البذل والتصدق ما وسعهم ذلك، ويوصي النساء بألا تحقر الجارة شيئا يمكن أن تتصدق به على جارتها مهما كان قليلا أو يسيرا، يقول أبو هريرة: إن رسول الله كان يقول: «يا نساء المسلمات، لا تحقرن جارة لجارتها، ولو فرسن شاة» أي: ولو عظمة صغيرة عليها لحم قليل.
واختتم كلمته بأنه صلى الله عليه وسلم لم يحرم المخلوقات الضعيفة من تدخله بشخصه الشريف لصد الخطر عنها، وفي ذلك يروي بعض أصحابه أنهم كانوا مع رسول الله في سفر فرأوا طائرا كالعصفور له فرخان صغيران، فأخذ أحد أصحابه هذين الفرخين، فجعل الطائر يضرب بجناحيه، فجاء النبي وقال: «من فجع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها»، ولعل فيما سردناه، وهو قطرة من بحر، بل من بحور، ما يعزز الدعوى التي سلفت في بداية الكلمة بأن المعارف والتعاليم الإلهية والخلقية والتشريعية التي تزخر بها مدرسة النبوة المحمدية، هي خريطة النجاة للعرب وللمسلمين في معركتهم الحضارية اليوم، وفي صياغتهم لمجتمعات معاصرة، صياغة قوامها التقدم الخلقي جنبا إلى جنب التقدم العلمي والتقني.