رئيس التحرير
عصام كامل

العمر المسروق (1).. من اللص؟

مبدئيا وبديهيا لا يمكن فصل عمر الفرد منا عن العمر السياسي من حوله، ومبدئيا وبديهيا، لا يمكن قبول فكرة أن المرء يستطيع عزل عمره، حفاظا على إيقاعه وعلى امتداده، عن دراما العمر السياسي المتتابعة من حوله، وبعبارة أخيرة؛ فإن عمر المرء الواحد ليس مجموع أعمار من حوله، فذلك عمر المجتمع، وهذا بديهى، لكنه نتاج أعمار  الآخرين وأفعالهم. حين نقول  أعمار وأعمال الآخرين فهم من نعيش معهم في الأسرة الصغيرة والكبيرة، والجيرة، ثم الوطن، ثم القادة الذين يقررون إيقاع حياتنا، ويتحكمون في عقارب الساعة. 

 

نعم حياتنا ساعات معدودات محسوبات مقدرات، تتجمع أيامًا فشهورا فأعواما  فسرابا. سنبدأ معا من سن الخامسة، وحدة قياس النضج من وجهة نظرى، وهي وحدة اخترتها بعد تأمل وتمعن فيما يطرأ علي المرء من تغيرات في البنية وفي الهرمونات، أي تلك التغيرات الفسيولوجية والبيولوجية، ولاحظت أن وحدة القياس خمسة تمثل قفزات مميزة، فمثلا الطفل يتحول بعد الخامسة إلى العاشرة صبيا، يمتد طولا ويتهيأ صوته للخشونة، ويتأكد الميل نحو الآخر، الذكر نحو الأنثى والأنثى نحو الذكر، ميلا لطيفا بريئا، وتظهر شعيرات الشارب الخفيفة..

 

ومن العاشرة إلى الخامسة عشرة تقع القفزة المؤثرة، فنحن أمام مراهق، هو عائش المراهقة منذ الثانية عشرة، وتتزايد تفاعلاتها وآثارها، فيزداد النزوع للآخر، حبا وجنسا وخيالات وأحلاما ورؤى، كما تزداد مشكلاته مع أسرته لأنهم أمام كيان يعلن بقوة وتمرد عن حضوره، ومن الخامسة عشرة إلى العشرين نحن بحضرة شاب، له أحلامه القوية الواضحة وطموحاته، وصراعاته ونزواته..

 

تمتد جميعها إلى الخامسة والعشرين فالثلاثين، فالخامسة والثلاثين، عندئذ تدهشك كمراقب، وتدهش صاحب هذا العمر ذاته، تجليات البدن وتجليات العقل، فالصوت أهدأ والأفكار أعمق، والتراضي أو المداورة والمناورة لغة مع الجميع، والهدف تحقيق النجاح المنشود بخطط  يرسمها العقل وينفذها بتسلل.  

 

ثم إليك القفزة العظمى، هي سن الأربعين، وما أروعها، حين بلغتها أدهشني ما أفعله، وما أقوله وما أكتبه، وأعجبنى عقلى وكيف أنى أتريث وأخطط وأدبر وأبرر وأهاجم وأتراجع بحكمة، فأنت فهمت الحياة، فهمت أنك في ملعب كبير والمباراة أزلية والحكم فوق في السماء سبحانه. الخمسة التالية تهيئة لمحطة وصول متهادية، من الخامسة والأربعين إلى الخمسين تجنى ثمرات الكفاح، وتهنأ بنتاج عملك وعمرك وصبرك، حتى إذا بلغت الخمسين، انتبهت أن خطوط الزمن تتراقص علي ملامحك وبداخلك، عندئذ يقع تغير مزلزل بداخل المرء..

 

إذ يدرك أن ما هو آت ليس بقدر ما قد فات، وأن العمر ركض ركضا وتسرب كالماء وتبدد كالضوء، وفي هذه المرحلة يحدث نكوص بيولوجي عكسي، إذ تتهافت جوارح الشخص إلى مطاردة الزمان، واختزاله، ولا أبالغ إن قلت اعتصار ما يتبقى بما تبقى من قدرة بدنية وروحية وعاطفية. 

 

 

محطة الخمسين والخمسة وخمسين هي محطة الرعب، رعب لا يحس به الإ صاحبها، وربما يرضيه أن يسمع المصابين أمثاله ممن سبقوه إلى الاستسلام، يسمعهم يبررون بأن لكل مرحلة مباهجها وجمالها، وهو يرضى بهذه المسكنات، لكنه مرتعب، تركض  به عقارب الساعة نحو الستين.. وما أدراك ما الستون وما بعدها، لكن كيف سرقت أعمارنا  من السارق؟ نواصل الجري واللهاث لنكشف عن وجهه.

الجريدة الرسمية