محمد الفحام.. أول شيخ للأزهر غير قاهري.. نال الدكتوراة تحت نيران هتلر.. ومقبرته تكشف شائعة اعتناقه المسيحية
الشيخ محمد الفحام، الإمام الأكبر وشيخ الجامع الأزهر الأسبق يعد أول شيخ يتولى منصب الامام الأكبر من خارج القاهرة، فقد كان مقيما في الاسكندرية، وعندما أصدر الرئيس الراحل عبدالناصر قرارا بتعيينه شيخا للأزهر في 17 سبتمبر 1969 خلفا للشيخ حسن المأمون، في ظل ظروف هزيمة يونيه، قام بدور كبير في بث الوعي الديني وتحميس الشعب على مقاومة آثار الهزيمة والاستعداد لحرب أخرى.
من هو الشيخ الفحام؟
والشيخ الفحام من أعلام اللغة العربية والنحو وكان من شيوخ الأزهر القلائل الذين شغلوا عضوية المجمع اللغوي وظل فيه حتى مماته.
وُلِدَ الدكتور محمد الفحام في 18 من ربيع الأول سنة 1321هـ، الموافق 18 من سبتمبر سنة 1894م، في الرمل بمحافظة الإسكندرية وترجع جذوره إلى قرية بني مر بمحافظة أسيوط حيث يوجد بها حتى الآن معظم أقربائه وهم معروفون باسم عائلة الدك ومنهم عثمان الدك والشيخ حسن الدك.
وحفظ القرآن وجوده والتحق بالمعهد الديني بالإسكندرية، وتوفي في 19 من شوال 1400هـ، الموافق 30 أغسطس سنة 1980م، في بيته بالإسكندرية، ودُفِنَ في مدافن العائلة بالإسكندرية والتي تعرف بـ «مدافن المنارة».
وسلك في تعلُّمه المسلك الذائع في عصره؛ فحفظ القرآن الكريم، ثم لحق بمعهد الإسكندرية الديني، وقضى به سنوات حصل فيها على شهادته الابتدائية والثانوية، ثم درس بالجامع الأزهر، ونال شهادته العالمية سنة 1922م.
وعمل الشيخ محمد الفحام، شيخ الأزهر الأسبق، بالتجارة بعد حصوله على العالمية من الأزهر الشريف عام 1922، ونجح في هذا المجال، لكن نصحه مقربون منه بالعودة إلى الأزهر مرة أخرى، وبالفعل عاد من بوابة التدريس بعدما أعلن الأزهر عن مسابقة بين العلماء في العلوم الرياضية لتعيينهم مدرسين للرياضة بالمعاهد الدينية سنة 1926، فتقدم للامتحان ونجح فيه بتفوق، وقام بتدريس علوم الحديث والنحو والصرف والبيان والحساب والجبر لمدة تسع سنوات.
الحرب العالمية الثانية
فلما كانت سنة 1936م اختار الأزهر بعثة من خيار المتخرِّجين فيه ليدرسوا في باريس دراسة تمكِّنهم من الحصول على الدكتوراه في الآداب، فكان منهم الدكتور محمد الفحام، الذي قضى في باريس هو وأسرته عشر سنوات، صبر فيها على ما لقي من شدائد في ظلمات الحرب العالمية الثانية ونيران النازية بقيادة هتلر، حتى حصل على الليسانس من جامعة «السوربون»، وعلى عدة دبلومات، ثم حصل على الدكتوراه في الآداب بدرجة الشرف الممتازة من جامعة باريس سنة 1946م، عن رسالته: «معجم عربي فرنسي لاصطلاحات النحويين والصرفيين العرب»، وكان هذا المعجم مناط تقدير الأساتذة والمستشرقين وثنائهم، حتى إن أحدهم قال له: «لست أظن أن عالمًا زار فرنسا أكثر إلمامًا باللغة العربية منك».
عاد الشيخ إلى مصر فوجد شهرته العلمية قد سبقته، فنهض بتدريس الأدب المقارن لطلبة كلية اللغة العربية، وبتدريس النحو بكلية الآداب - جامعة الإسكندرية.
وما زال الشيخ الفحام يتدرج في وظائف التدريس حتى صار عميدًا لكلية اللغة العربية سنة 1959م، إلى أن أحيل إلى التقاعد فانكبَّ على البحث والدرس في مكتبته الخاصة نحو عشر سنوات.
مشيخة الأزهر
واختير شيخًا للأزهر الشريف بتاريخ 5 من رجب سنة 1389هـ، الموافق 16 من سبتمبر سنة 1969م حينما كانت تخوض مصر حرب الاستنزاف ضد الاحتلال الصهيوني لسيناء.
ثم انتخبه مجمع اللغة العربية عضوًا به، واحتفل باستقباله في 12 من صفر سنة 1392هـ، الموافق 27 من مارس سنة 1972م.
استقالة الشيخ الفحام
وظل في مشيخة الأزهر إلى مارس سنة 1973م؛ حيث ألحَّ في طلب إعفائه من منصبه لظروفه الصحية؛ فاستجيب له وبعد أن قدم استقالته تولى المشيخة الدكتور عبدالحليم محمود الذي يعتبر أيضا من أشهر مشائخ الأزهر الذين تركوا بصمة كبيرة، وعكف هو في بيته بالإسكندرية ملازمًا للمصحف الشريف، مواظبًا على فرائضه وصلواته.
سر رحلة الشيخ الفحام إلى نيجيريا
وارتبط الشيخ الفحام بالعالم العربي والإسلامي ارتباطًا فكريًّا وعمليًّا؛ فقام برحلات متعددة إلى كثير من الأقطار؛ فمثَّل الأزهر في مؤتمر ثقافي في لبنان سنة 1947م، وسافر إلى نيجيريا موفدًا من الأزهر لدراسة أحوال المسلمين بها واقتراح حلول لمشكلاتهم، وقضى هناك خمسة أشهر، ولم يُثْنِه عن السفر ما زعمه له بعض المبشرين المسيحيين الذين زاروا نيجيريا من قبل بأنها مقبرة الرجل الأبيض، بل خرج من داره يتلو قول الله تعالى: «وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا»، وكانت رحلته ذات آثار طيبة؛ إذ اختار بعض أبناء نيجيريا ليتعلموا بالأزهر، وتخيَّر طائفة من علماء الأزهر ليدرسوا هناك، ولم تلبث نيجيريا أن حفلت بعدة مدارس وبكثير من المعلمين العرب والقضاة العرب.
وبعد ذلك سافر إلى باكستان ثلاث مرات اتصل فيها بكثير من علمائها، وزار كثيرًا من مدارسها ومعاهدها ومكتباتها، ثم اتجه إلى موريتانيا، وأسهم في إنشاء مكتبة إسلامية كبيرة بها، وشارك في مناقشات إسلامية، منحوه بعدها وثيقة مواطن موريتاني، كذلك سافر إلى إندونيسيا ثلاث مرات ممثلًا للأزهر، وسافر إلى إسبانيا والسودان والجزائر وإيران وليبيا.
مؤلفات الشيخ الفحام
وقد خلَّف الشيخ الفحام – رحمه الله - مؤلفات قيمة، منها: مذكرات في الأدب المقارن، لطلبة كلية اللغة العربية، مذكرات في النحو لطلبة كلية الآداب بجامعة الإسكندرية، كتاب عن سيبويه وآرائه النحوية، هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم، المسلمون واسترداد بيت المقدس، أثر الإسلام في توجيه القادة الإداريين.
وللشيخ الفحام بحوث نشر بعضها في مجلة مجمع اللغة العربية، منها:
1- «الشيخ خالد الأزهري»، وذكر فيه المصادر الاثنى عشر التي تحدثت عنه، وعرض أسماء أساتذته، وأسماء مؤلفاته الستة عشر التي وصلت إلينا، ومنها المقدمة الأزهرية، وشرحها، وإعراب الأجوبة وشرحها.
2 - بحث آخر موضوعه سيبويه، بدأه ببيان معنى كلمة سيبويه، فنقل ما ذكره القدماء، ثم نقل ما ذكره المستشرق كرنكو، ولم يعتمد على ما ذكره المستشرق، بل سأل علماء اللغة الفارسية، وانتهى إلى ترجيح أن كلمة سيبويه معناها «تفاحة صغيرة» لا «رائحة التفاح»، كما هو ذائع شائع، وبعد هذا التمهيد الشائق ذكر عدة من العلماء اسم كل منهم سيبويه، هم: سيبويه الأصفهاني، وسيبويه المغربي، وسيبويه المصري، ثم انتقل إلى شيخهم سيبويه البصري إمام علماء البصرة، وشيخ النحاة، وأول من لقب بهذا اللقب، فتحدث عن مولده ومكانه وتلاميذه والمناظرة التي كانت بينه وبين الكسائي.
وقد لقي الإمام الأكبر الشيخ محمد الفحام وجه ربه يوم الأحد 20 من شوال سنة 1400هـ، الموافق 31 من أغسطس سنة 1980م.
وتخليدًا لذِكْرِه أطلقت كلية اللغة العربية بالقاهرة اسمه على إحدى قاعاتها الكبرى.
شائعة اعتناقه المسيحية
ونالت من الشيخ الفحام فرية اعتناقه المسيحية وهو ما فنده الشيخ الازهري المعروف يوسف البدري، قائلا إن شائعة ارتداد الفحام انطلقت من خارج مصر بعد تقديمه لاستقالته، وربما يكون ذلك بسبب المناخ الطائفي الذي كان سائدا في هذه الفترة، لكن الحقيقة أنه كان من أبرز علماء ومشائخ الأزهر وذا علم كبير، واستمرت أحاديثه الصباحية في الاذاعة المصرية، بأسلوبه الجذاب القوي وقدراته الفقهية والعلمية والشرعية، ولذلك فان هذا الكلام غير صحيح بالمرة، فحتى الآن ينظر إليه بأنه من مشائخ الأزهر الكبار الذي أثروا مسيرته الطويلة بعلمهم الغزير وبجهودهم التطويرية.
وكان عزت اندراوس في "موسوعة أقباط مصر" قد ذكر أن الفحام "أعفي من منصبه لأنه اعتنق المسيحية، وغادر مصر بلا عودة إليها وطلب حق اللجوء الدينى هو وأسرته لإحدى الدول الغربية وما زالت أبنته موجودة حتى اليوم فى إحداها متخفية عن العيون الباحثة عنها". وأضاف أنه "تم تعميده على يد المتنيح الأنبا بيمن".
وبرر اندراوس ذلك الاستنتاج الذي ذهب إليه بأن "الفحام هو الوحيد من شيوخ الأزهر الذى أعفى من منصبه"، مشيرا إلى أن "السادات استدعاه وطلب منه مغادرة مصر، فغادر هو واسرته إلى بلد غربية واختفى خوفًا من القتل".
وأكد الدكتور محمود جامع الذي كان بمثابة مستشار للرئيس السادات فيما يخص الشأن الديني والاسلامي، أن اعفاء الشيخ الفحام كان استجابة من السادات لطلب ألح عليه الفحام بسبب تقدم سنه وتدهور صحته، وأنه استمع بنفسه إليه وعرفه عن قرب، والدليل على كذب هذا الادعاء أنه مات في مصر ودفن فيها في مقابر المسلمين، وليس كما قيل إنه ترك مصر تنفيذا لأمر من السادات وأقام في دولة غربية مجهولة حتى وفاته.
وأما عبد اللطيف فايد مؤرخ مسيرة مشائخ الأزهر فقال: ليس صحيحا أن الشيخ الفحام هو الوحيد من مشايخ الجامع الأزهر الذين تركوا منصبهم وهم على قيد الحياة، فهناك حالات أخرى، منها ما هو في العهد الملكي ومنها بعد الثورة، وأن الشيخ الفحام من أعلام اللغة العربية والنحو وكان من شيوخ الأزهر القلائل الذين شغلوا عضوية المجمع اللغوي وظل فيه حتى مماته.