نص كلمة شيخ الأزهر بالمؤتمر السابع لقادة الأديان بكازاخستان
ألقى الإمام الأكبر د.أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، رئيس مجلس حكماء المسلمين، اليوم الأربعاء، كلمة في افتتاح أعمال المؤتمر السابع لزعماء الأديان العالمية والتقليدية، تحت عنوان "دور قادة الأديان العالمية والتقليدية في التنمية الروحية والاجتماعية للبشرية في فترة ما بعد وباء كوفيد-19"، بحضور الرئيس الكازاخي وعدد كبير من قيادات الأديان على مستوى العالم.
وجاء نص كلمة الدكتور احمد الطيب شيخ الازهر الشريف بالمؤتمر السابع لقادة الأديان بكازاخستان كالتالي:
الحمدُ لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ومولانا محمدٍ وعلى آله وصَحبِه.
الرئيس قاسـم جـومارت توقاييف- رئيسَ جمهوريَّة كازاخستان.. عُلمَــاء الأديان ورمــوزَها.. السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وشُكْرًا جَزيلًا -الرَّئيس توقاييف- لدعوتكم الكريمة للمُشاركة في هذا المؤتمرِ البالغ الأهمية، والذي يَنعقدُ -اليومَ- في بلدِكم الطيِّب المُبارَك.. ونرجو له من الله العَليِّ القَدير أنْ يجيءَ إضافةً جديدةً مُعتبرةً على طريقِ الأُخوَّة البشريَّة والعيش المشترك، والسَّلامِ الذي يَفتقدُه العالَم اليوم، ويتطلَّعُ إليه تطلُّعَ المريض إلى علاجٍ نادرٍ عزيزٍ يُنهي آلامَه وصِراعاتَه.
وإنَّ مِمَّا لا شَكَّ فيه أنَّ موضوعَ مؤتمرنا هذا، وهو: دور علماء الأديان في فترة ما بعد الجائحة: رُوحيًّا واجتماعيًّا – هو موضوعُ السَّاعة، وحديثُ الشعوب، وما تتطلَّع إليه في مَشارقِ الأرضِ ومغاربِها بحُسبانه طوقَ النَّجاة المنقِذ من غرقٍ مُحقَّقٍ ومن هلاكٍ مُؤكَّد، وبخاصةٍ بعد ما بدأ العالَـمُ في التعافي من آثار جائحة «كورونا» التي أَوْدَت بحياةِ ما يقربُ من: خمسةَ عَشَرَ مليونَ نسمةٍ، والتي ما كاد يُفيقُ العالـمُ من كوابيسها حتى دهمته جوائحُ وكوارثُ أخرى: طبيعيَّةٌ، وسياسيَّةٌ «واقتصاديَّةٌ» صَنَعَها الإنسان بيدِه، وبدافعٍ من أنانيتِه المفْرطة وأطماعِه الواسعة، وضميرِه الميِّت.. ولَيْتَ الآثارَ المدَمِّرةَ لهذه الكوارث حاقت بالمفسدين وحدهم، جزاء ما قدَّمَت أيديهم! إذن لهان الأمرُ وسَهُل.. لكنها حاقت بكوكبنا الأرضيِّ بكلِّ ما عليه من إنسانٍ وحيوانٍ ونبات..
ومن المُدْهِش أنْ يحدِّثُنا القُرآن الكريم عن هاتين الظاهرتين؛ وعن تداعياتهما منذ ما يقرب من خمسة عشر قرنًا من الزمان، ويقولُ عن ظاهرة تدخل الإنسان في إفساد الأرض، وما يحيق به بسبب تدخله: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم: 41]، ويقولُ عن الظَّاهرة الثانية:(وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [الأنفال: 25].
وما أظنني في حاجة لتذكيركم -أيها السادة الفضلاء- بما تُعانيه البشريَّةُ اليوم من رُعبٍ وخوف بسبب التغيُّر الفُجائي في ظواهر الطبيعة والمناخ، والمتمثِّل في ارتفاع درجة الحرارة، وحرائق الغابات، وارتفاع مَنسوب المياه في البحار والمحيطات، وتهديد المُدُن بالغرق والسيول، وجفاف بعض الأنهار، ونُفوق كثيرٍ من الكائنات الحيَّة، وأزمة الطَّاقة.. وغير ذلك مِمَّا نراهُ بأمِّ أعيُننا على وسائل التواصل صباحَ مساء، وكذلك ما حاقَ بنا في الآونة الأخيرة من ممارساتٍ سياسيَّةٍ استعلائية هزَّت أركانَ الاقتصاد الدولي، وأصَابت الدولَ الغنيَّةَ والفقيرة بما لم يَكُن في حسبانها من أزماتٍ طاحنةٍ طالَت لُقْمَة الخُـبْز وجُرْعة الماء، فضلًا عن ترويع الآمنين وقتلهم وتهجيرهم وإجلائهم عن ديارهم وأوطانهم.
نعم! لستُ في حاجةٍ إلى التذكيرِ بشيءٍ من كل ذلك، فهو واقعٌ معيش لا يتمارى فيه إلَّا المُترَفون الغافلون المُــــكذِّبون.. ولكني أُذكِّر بأنَّ هذه الكوارث هي مِن صُنع إنسان هذه الحضارة، وبسببٍ مِمَّا اقترفته يداه عن عمدٍ وغطرسةٍ ولامبالاةٍ بالآخرين، وأنَّ هذا الإنسانَ التائه الضائع ما كان ليُقدِم على اقتراف هذه الجرائم لولا اجتراؤه على مُقدَّساتٍ لم يحدُث أن اجترأت عليها أُمَّةٌ من الأُمم في مسيرتها الحضاريَّة على امتدادِ التَّاريخ.. ومن المؤلم أن يجيءَ «الدِّين»، وما ينبثق عنه من قوانينَ وتعاليمَ أخلاقيَّةٍ ضابطةٍ لمسيرة الحضارات، نعم من المؤلم والمُحبط أنْ يأتيَ «الدِّين» الإلهي- في مُقدِّمةِ المقدَّسات التي تنكَّرت لها حضارتنا المعاصرة وسَخِرت منها، ثم ما لبثت أن ألقت بها وراء ظهرها، واستبْدَلت بها دِينًا آخر يقومُ على الكُفر والإلحاد، وما تبعثه هاتان الآفتان من أخلاقياتٍ ورذائلَ وتَمذْهُبٍ بالحُريَّةِ الفرديَّةِ والأثرة والأنانيَّة، وعبادَةِ اللذَّة والشَّهْوة، والتَّحَرُّرِ الجنسيِّ وربطه بالتحرُّر العقليِّ والفكري وجودًا وعدمًا، والتعبُّد بثقافة السُّوق ووَفرة الإنتاج وجشع الاستهلاك.. وما صاحَب ذلك من حملاتٍ مَدْروسةٍ ومُمَوَّلةٍ تَصرُخ في عقول الشَّباب ليل نهار وتدعوهم لأنْ يَنفُضوا أيديهم من مؤسَّسة «الأُسْرَة»، والنظر إلى «الزَّواج» على النَّحْو الذي عرفَتْه البشريَّة منذ خَلَقَ الله الأرضَ ومَن عليها وإلى وقتِ الناس هذا –على أنه خُدعةٌ كُبرى لا تَليق بثقافة الأجيال الجديدة، وعلى الشَّباب أنْ يتحرَّر منه ومن قيوده التي سجنته فيها الأديانُ والأعرافُ الإنسانيَّة، وعلى المرأة ألَّا تخجل من أن تتزوَّج بامرأة مثلها، أو يكونَ لها أكثر من زوج، وعلى الرجل مثلُ ذلك، ولم تتورع هذه الدعوات أن تهبط ببدائلها الجديدة إلى مستوى تعفُّ عنه الحيوانات والدَّوابُّ فضلًا عن ذوي الفِطْرة النقيَّة والعقول السَّليمة.
لعلَّكم تتفقُون معي في أنَّ التقدُّم العلمي والفلسفي، والتطوُّرَ التِّقنِي والاجتماعي، والذي هو عنوان حضارتنا اليوم -لم يَعُد مُؤَهَّلًا ولا قادِرًا على وقف هذا التدهور الخُلُقي والإنساني، وأنَّ فلاسفة «التنوير» قد خَسِروا رِهانَهم وهم يؤكِّدون على أنَّ التقدُّم العلمي والتِّقني «كفيل بأنَّ السَّلامَ العالميَّ سوف يسير في رِكابِ التحضُّر رأسًا برأسٍ وقَدَمًا بقدم»()، حتى قال أحد فلاسفة القرن الثامن عشر: «بقدر ما تتَّسِع رقعة الحضارة على الأرض سوف نشهد زوال الحرب. بل زوالَ العبودية والبؤس».
ونحن مع اعترافِنا بأنَّ الحضارة الغربية قد حقَّقت للإنسانيَّة في القرنين الماضيين من قفزاتٍ واسعةٍ، وإنجازات عمليَّة هائلة في مجالات العلم والصناعة والطِّب والتعليم والفن والثقافة وثورة المواصلات والاتصالات وعلوم الفضاء وغير ذلك.. وبما لم تعرفه البشرية إلَّا في عصر النهضة وما بعده.. أقول: مع اعترافنِا بكلِّ ذلك إلَّا أنَّ اضمحلال الجانب الرُّوحي، وغيابَ البُعد الخُلُقي من مسيرة الإنسان المعاصر، وسُخْريته من رسالات السماء عن عمدٍ وسبق إصرار، قد فرَّغ هذه الحضارة من أيَّة قيمة حقيقية تُذْكَر لها..
ومن هُنا -أيُّها الإخوة الأعزَّاء!- فإنَّ دورًا محوريًّا في التصدِّي لهذا السقوط الحضاري يقع -في المقام الأوَّل- على عاتِقنا نحن علماء الأديان، يتمثَّل في إحياء رسالات السماء، ونَشْر ما تَزخَرُ به هذه الرسالات من تعاليمَ وأخلاقٍ وفضائلَ، هي العُدَّة والعَتاد لإصلاحِ مَسيرة النَّاس، وبعث الرُّوح في جَسَدِها المَيِّت.. وأنا أعلم أنَّ عوائق كُبرى، لا يُستهان بها، قد تحولُ دون القيام بهذا الدَّور على النَّحو الصَّحيح.. وأوَّلُ هذه العوائق هو غياب «الانفتاح» أو الحوارِ الحقيقي بين عُلماء الأديان أنفسهم، وصُنعِ «سلام» دائم بينهم أوَّلًا، قبلَ مُطالبة الناس بصُنعِه فيما بينهم، إذ فاقدُ الشيءِ لا يُعطيه كما يقول المثل الحكيم.. كيف! والسَّلام بين الشعوب فرعٌ عن السَّلام بين الأديان، و«الأخوة الدِّينيَّة» هي باعثةُ «الأخوَّة الإنسانيَّة العالميَّة» وصانعتُها.. وما لم يثبت الأصل أوَّلًا، لا يمكن أن يثبت الفرع ثانيًا، فضلًا عن أن يعمل أو أن يُؤثِّر.. وإذن فالبداية الصحيحة -فيما أرى-هي بعث هذه الأخوَّة بين علماء الأديان ورجالها؛ بحُسبانهم أقدَرَ النَّاس على تشخيص العِلَل والأمراض الخُلُقيَّة والاجتماعيَّة وكيفيَّة علاج الأديان لها.. وعلينا أن نكون على يقينٍ من أنَّ الخطر الدَّاهم الآن لا يأتي من اختلاف الأديان، بقدر ما يأتي من «الإلحاد»، وما يتولَّد عنه من فلسفاتٍ تُقدِّس «المادة» وتتعبَّد بأدرانها، وتستهين بالأديان وتعدُّها هُزوًا ولَعِبًا.
قبل أن أختم كلمتي أود أن أنهي بأمرين:
الأمرُ الأول: أنَّني حين أدعو إلى أوَّلية صُنعِ السلام بين علماء الأديان ورموزها الأخوَّة الإنسانيَّة؛ فإنني لا أعني مُطلقًا الدعوة إلى ادماج الأديان في دِينٍ واحد، فمثل هذا النداء لا يقول به عاقل ولا يقبله مؤمن أيًّا كان دينه؛ وأنا مِمَّن يؤمنون بأنَّ فكرة الاندماج هذه فكرةٌ مُدمِّرةٌ للأديان، ومُجتثَّة لها من الجذور، وهي في أفضل أوصافها خيالٌ عبثيٌّ غير قابل للتصوُّر، فضلًا عن التحقُّق.. وكيف لا وقد قضى الله أنْ يجعل لِكُلٍّ مِنَّا شِرْعةً ومِنْهاجًا!! وما اقصده هو الدَّعوة إلى العملِ الجاد من أجل تعزيز القِيَم المشتركة بين الأديان، وفي مُقدِّمتها: قيمَةُ التَّعارُف الحضاري، والاحترامِ المتبادل والعيش المشترك بين الناس.
الأمرُ الثاني: إنَّني أنتهز فرصة اجتماع علماء الأديان ورموزها المختلفة في هذا المؤتمر، لأدعو لانعقاد لقاء خاص برموز الأديان يتدارَسون فيه، بصراحة ووضوح تامَّين: ماذا عليهم وماذا على غيرهم من القادَة والسِّياسيِّين وكِبار الاقتصاديِّين، من الواجبات والمسؤوليات حيال هذه الكوارث الاخلاقيَّة والطبيعيَّة، والتي لا يرتاب أحد في أنَّها باتت تُهدِّد مستقبل البشريَّة بأكملها، وما أظن أن لقاءً كهذا يصعب على هِممَ قادة الأديان المختلفة في الغرب والشرق، أو يستحيل عليهم، ولنا في تجربة وثيقة الأخوة الإنسانية ما يُشجِّعنا على ذلك، فقد كان توفيق الله تعالى كبيرًا في إتمام وثيقة الأخوة الإنسانيَّة، تلكم التي جاءت كأول ميثاق إنساني بين المسيحيِّين والمسلمين في عصرِنا الحديث؛ لتتأكَّد النظريَّة التي يُؤمن بها الأزهر دائمًا، ويدعو إليها في كلِّ مكان وهي: أن كل لقاء جاد مسؤول بين رموز الأديان يتحوَّل -لا محالة-إلى طوق نجاة للحضارة الإنسانيَّة حين تحاول أعاصير الشَّر زعزعة أركانها أو اقتلاعها من جذورها.