بمناسبة الذكرى 31 للإستقلال
هراتشيا بولاديان.. سفير أرمينيا بالقاهرة يكتب: العلاقات الأرمينية المصرية قوية منذ قرون.. و"منتدى الأعمال" تعزيز للتعاون السياحي بين البلدين
تقع جمهورية أرمينيا أو أرمينيا الشرقية الحالية أو السوفيتية السابقة في القسم الجنوبي من سلسلة جبال القفقاس وتحدها من الشمال والشرق جمهوريتا جيورجيا وأذربيجان، ومن الغرب والجنوب الشرقي تركيا وإيران. ويوجد معظم أراضي أرمينيا تقريبا على ارتفاع يزيد عن ألف متر فوق سطح البحر. وأعلى نقطة فيها هي قمة جبل "أراكاتز" (4095مترا) وأخفض مناطقها في أقصى الشمال لا ينقص عن 390 مترا.
شارك الأرمن منذ تكوينهم كأمة، أقدم الشعوب في بناء الحضارة عبر التاريخ. فخلال أكثر من ألفي عام مكن الموقع الجغرافي والطبيعة التكيفية للشعب الأرمني من أن يحتل موقعًا مميزًا في التاريخ. وظهرت في أرمينيا عبر التاريخ العديد من الأسر الملكية كما تطورت مع تطور الأمة وتماسك نسيجها الاجتماعي، الاقتصادي والثقافي والفنون والآداب والثقافة الأرمنية الذاتية وفي مقدمتها اللغة الأرمنية، التي تنتمي إلى مجموعة اللغات الهندأوروبية.
أرمينيا كانت أول دولة في العالم تعلن المسيحية كدين رسمي في البلاد في عام 301. وترك هذا القرار من قبل الملك ترتاد الثالث، بدون شك، أثر عميق على مجمل تاريخ أرمينيا فيما بعد، أما اختراع الأبجدية الأرمنية في عام 405 ميلادي من قبل العلامة العبقري والرجل السياسي الكبير ميسروب ماشطوتس حافظت على القومية الأرمنية والشخصية الذاتية للأرمن. وساهمت الأبجدية، التي تستخدم حتى أيامنا، إلى الوحدة السياسية والروحية والفكرية والقومية في جميع أنحاء أرمينيا.
تعرضت أرمينيا لغزوات الميديين والفرس والرومان والخزر والعرب والمنغول وغيرهم، وبالرغم من كل الصعوبات والظروف القاسية والمحن حافظ الأرمن على أصالتهم وتاريخهم وتراثهم وأثبتوا على عراقة أقدميتهم وأقدمية كنيستهم الوطنية المسيحية.
وفي القرن السابع على أثر انهيار الإمبراطورية الساسانية في نتيجة الفتوحات الإسلامية خضعت أرمينيا لحكم الخلافة العربية واستلمت السلالة "البقرادونية" سدة الحكم بشخص "أشوط بقرادوني" الذي توّج ملكًا على أرمينيا بموافقة الخليفة العربي عام 885 فدخلت البلاد مجددًا مرحلة نهضة اقتصادية وسياسية وعمرانية تمركزت في العاصمة الجديدة "آني". وبذلك كانت أرمينيا أول دولة في الخلافة العربية منحها البلاط العباسي في ثمانينيات القرن التاسع الميلادي حكمًا ذاتيًا.
لقد تم الفتح العربي لأرمينيا إبتداءًا من عام 640، واتسمت العلاقة بين أرمينيا والخلافة العربية بأنها علاقة حسنة قائمة على المصالح المتبادلة والتفاهم المشترك والتعامل التجاري النشيط، اكتفى العرب بالولاء السياسي والتحالف الاستراتيجي للأرمن من خلال إبرام العديد من المعاهدات بما يضمن مصالح الشعبين. وأصبح حصيلة هذه الاواصر بقاء الارمن على عقيدتهم المسيحية ومحافظتهم على كنيستهم الوطنية، فضلًا عن تمتعهم بقوميتهم وتطوير الصناعات والمهن وبناء المدن وتراثهم ولغتهم في ظل الولاء للعرب.
ومع أن أرمينيا أصبحت ولاية عربية ضمن الخلافة العربية حوالي قرنين ونصف (640-885)، فإنها في الواقع ظلت أرمنية الطابع ولا تتعدى الارتباط السياسي والإداري مع الحكومات المركزية في الخلافة العربية. وفي القرن الحادي عشر الميلادي ومع انحلال الخلافة العربية تعرضت المملكة الأرمنية لهجمات الأتراك السلاجقة أدّت إلى فقدان استقلالها وسيادتها.
وظهرت في القرن نفسه مملكة أرمنية أخرى في كيليكيا دامت ما يقارب ثلاثة قرون (1080- 1375م)، ازدهرت بسرعة كبيرة وخلفت تراثًا غنيًا وخاصة في مجالي الأدب والعمران. وفي أواخر القرن الرابع عشر سقطت أخر مملكة أرمنية في كيليكيا على ساحل البحر الأبيض المتوسط وفقد الشعب الأرمني دولته واستقلاله.
وللخلاص من البطش والظلم والاضطهاد أخذ الأرمن يهاجرون إلى روسيا وأوكرانيا وبولندا وفيما بعد إلى فرنسا وبلدان أخرى في أوروبا ومنطقة الشرق الأوسط، حيث استمر تطور الثقافة الأرمنية بعد انقطاعه في الوطن. وفي عام 1513 نشر في البندقية بإيطاليا أول كتاب أرمني مطبوع.
أسفرت الحروب الدامية المتواصلة بين الدولتين العثمانية والفارسية عن تقسيم أرمينيا، وانضم شطرها الغربي إلى الامبراطورية العثمانية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، أما الشطر الشرقي من أرمينيا فانضم في عام 1639 إلى إيران الشاهنشاهية وفق معاهدة قصر شيرين المبرمة بين الامبراطورية العثمانية وإيران بشأن تقسيمها.
في عام 1828 وفقًا لمعاهدة تركمنتشاي ونتيجة الحرب بين القيصرية الروسية وإيران الشاهنشاهية، انضم الشطر الشرقي من أرمينيا وهو أرمينيا الشرقية إلى روسيا. وفي 28 مايو 1918 أعلنت أرمينيا الشرقية دولة مستقلة وما لبثت أن انضمت إلى الاتحاد السوفياتي فأصبحت في عام 1920 تعرف بجمهورية أرمينيا الاشتراكية السوفياتية. وفي عام 1991 في 21 أيلول مع انهيار النظام السوفيتي حصلت أرمينيا على استقلالها التام وسيادتها الكاملة وأصبحت في 2 مارس عضوا في هيئة الأمم المتحدة.
العلاقات الأرمينية العربية
تعود العلاقات التاريخية والثقافية بين العرب والأرمن الى عهود سابقة، وظهر الأرمن وفق المعلومات التاريخية في فلسطين والمناطق المجاورة خاصة سوريا وساحل البحر الأبيض المتوسط الشرقي أيام فتوحات الامبراطور الأرميني ديكران العظيم في القرن الأول ما قبل الميلاد. ومنذ تلك الفترة بدأ انتشار الأرمن في البلاد العربية الحالية.
إن الموقع الجغرافي لأرمينيا وبلاد العرب، بدون شك، لعب دورًا أساسيًا في العلاقات العربية الأرمينية والتبادل الثقافي والتجاري بين الشعبين، وانضمام أرمينيا إلى الخلافة العربية ساعد حقًا على التعارف المتبادل والتمازج الفكري والحضاري. فالاختلاف اللغوي والديني بين الشعبين لم يشكل عائقًا أمام توطيد العلاقات الأرمينية العربية على مرّ التاريخ.
إن دراسة النصوص التاريخية بصفة عامة وتاريخ الشرق الأوسط بصفة خاصة، تقود إلى استنتاج مفاده أن الحكم العربي إتسم بالنسبة للأرمن بالعدل والتسامح والتحرر من اضطهاد الإمبراطوريتين البيزنطية والفارسية، وباستجابة الخلفاء العرب لأول بادرة سلام بينهم وبين الأرمن. والشاهد على ذلك، كتب الأمان من قبل الفاتحين العرب وعدد من الخلفاء الراشدين والأمويين والعباسيين التي أوصت بالأمان للأرمن على أنفسهم ودينهم وأموالهم.
ويقول المؤرخ الفرنسي بهذا الصدد: "أن الحكم العربي في أرمينيا لم يؤد إلى انعزالها، بل على العكس من ذلك، فقد كان فترة تبادل واسع لمختلف الحضارات والثقافات". وحقًا ساهمت السلطة العربية على احتفاظ أرمينيا بحضاراتها المتميزة وموقعها الثقافي في مفترق الطرق بين الشرق والغرب.
ولأسباب سياسية، دينية، واجتماعية واقتصادية بدأت هجرات الكثير من الأرمن إلى البلدان المجاورة واستقروا بها واتخذوا منها أوطانا لهم. إن دراسة التاريخ تشهد على أن هجرة الأرمن بدأت في القرون ما قبل التاريخ وخاصة في القرن الأول خلال فتوحات الإمبراطور الأرمني ديكران العظيم (84-64 ق.م)، والذي امتدت إمبراطوريته إلى حدود فلسطين، شاملة مناطق واسعة بين بحر قزوين والبحر الأسود شمالًا ومن حدود فارس إلى البحر الأبيض المتوسط جنوبًا، فتحوّلت عاصمته ديكراناكيرط (ميافارقين، سيلافانا الحالية في تركيا) إلى محور اتصال مع البلدان المجاورة.
وهاجر بعض الأرمن إلى فلسطين واستقروا في مختلف مناطقها، ووفق المصادر التاريخية فإن أولى الكنائس الأرمينية شيدت في فلسطين في القرن الرابع بعد اعتناق الأرمن الديانة المسيحية رسميا في 301 م. ويدل هذا على وجود الأرمن في فلسطين خاصة في مدينة القدس ابتداءً من القرن الرابع الميلادي. وفي القرن الخامس الميلادي بدأ الحجاج الأرمن من أرمينيا بالذهاب إلى الأراضي المقدسة ومن بينهم مخترع الأبجدية الأرمينية ميسروب ماشطوتس وبعض المترجمين الأوائل.
وأسس الرهبان الأرمن في القدس رهبانية أرمنية مستقلة وبطريركية، أصبح مركزها دير القديس يعقوب الذي لا يزال قائمًا حتى الآن. ويدل ما ذكر على الصبغة الدينية للوجود الأرمني في فلسطين. إن مدن سوريا وبلاد ما بين الرافدين كانت مناطق مهمة ومزدهرة للتجارة العالمية ما قبل التاريخ وخلال الحكم البيزنطي والعربي. وكانت هذه المناطق مرتبطة مع أرمينيا ومدنها بطرق تجارية عديدة. فكان الأرمن على اتصال مباشر مع المناطق المجاورة، فتأسست لهم مراكز دينية وثقافية فيها. ويدل على ذلك كثرة الأرمن في سوريا ومصر.
الأرمن في مصر
حاز الأرمن في مصر على مكانة مرموقة، وقد استقرّوا فيها منذ العصور القديمة، وخاصة في القرن الأول ما قبل الميلاد، وكان للأرمن علاقات تجارية متطورة مع الإسكندرية التي كانت تعتبر من أهم المراكز التجارية والثقافية حينذاك. وتعلم الكثير من الطلبة الأرمن في هذه المدينة. وأثناء حكم الإمبراطورية البيزنطية على أفريقيا خلال قرنين (395-640م) قطنت في مصر جالية أرمينية مزدهرة، برزت منها شخصيات أسندت إليها مناصب رفيعة.
وفي عام 640م ضمت مصر إلى الخلافة العربية من قبل القائد العربي عمرو بن العاص، الذي بني في عام 642م مدينة الفسطاط. وقام أحد أصحاب القائد العربي ببناء سوق فيها سمي باسمه هو سوق "واردان الأرمني"، والذي عين في منصب والي خراج مصر من قبل معاوية بعد وفاة عمرو بن العاص. وكان واردان مساعد ورفيق القائد العربي في السلاح.
تمتع الأرمن في مصر أثناء الحكم العربي بحرية العبادة الدينية، ولعبوا دورًا سياسيًا واقتصاديًا وعمرانيًا وثقافيًا عظيمًا خاصة في عهد الخلافة الفاطمية. وسمى بعض المستشرقين النصف الثاني من القرن الحادي عشر الميلادي بالعهد الأرميني، إذ بلغ عددهم حينذاك في مصر حوالي ثلاثين ألف شخص. ونزح إلى مصر عدد كبير من أبناء أرمينيا عن طريق القدس بعد غزوات الأتراك السلاجقة وانهيار دولة البقرادونيين.
وفي هذه الفترة تقلد الأرمن خلال فترة استمرّت حوالي مئة عام مناصب الوزارة في الخلافة الفاطمية ولعبوا، كما ذكر، دورًا سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا هامًا في تاريخ البلاد. ويعد بدر الدين الجمالي مؤسس سلالة الوزراء الأرمن في عصر الفاطميين، وقد جاء الجمالي إلى مصر من عكا على رأس الجيوش الأرمينية في عام 1073م. بدعوة من الخليفة المستنصر كما يقول المؤرخ ابن القلانسي "لإصلاح الأحوال في البلاد". وليس من المستغرب أن الشخصيات الأرمينية التي تقلدت أرفع المناصب في الوطن العربي حملت أسماء عربية رغم بقاء ارتباطها بأصولها الأرمينية.
كان بدر الدين الجمالي في البدء مملوكًا لوالي دمشق جمال الدولة بن عمار، وقد عينه الخليفة المستنصر فيما بعد واليًا على دمشق. وسرعان ما عيّن واليًا على عكا، وتشهد المعلومات التاريخية على تحقيق ازدهار خلال ولايته. ويكتب المؤرخ المقريزي في حديثه عن بدر الدين الجمالي ويقول: "كان مملوكًا أرمنيًا لجمال الدولة بن عمار فلذلك عرف بالجمالي ومازال يأخذ بالجد من زمن سبيه فيما يباشره ويوطن نفسه على قوة العزم ويتنقل في الخدم حتى ولي إمارة دمشق من قبل المستنصر".
ووصل بدر الدين الجمالي مصر على رأس جيوشه الأرمينية وفق شروط خاصة اتفق عليها مع الخليفة المستنصر. وسرعان ما تخلص، بإذن الخليفة، من أمراء الدولة والجيش من الأتراك بحيلة غريبة، وأعلن الحرب على جميع المخالفين في مصر.
تقلد بدر الدين الجمالي منصب الوزير زهاء 20 سنة (1073-1094م) واشتهر في التاريخ بلقب "أمير الجيوش" و"وزير السيف والقلم وكافل قضاة المسلمين وهادي دعاة المؤمنين". وتطورت مصر أثناء ولايته تطورًا كبيرًا. وكانت من منجزاته أيضا عمارة سور القاهرة و"دار الوزارة" و"دار الضيافة" و"سوق حارة برجوان" وغيرها.
وتشير النصوص التاريخية بأن بناء باب زويلة وباب النصر وباب الفتوح تم من قبل 3 أخوة بنائين أرمن، قدموا إلى مصر بهذه المهمة من أرمينيا. ولذا ذكر عن أوجه تشابه بين أسوار القاهرة وأبوابها وبين أسوار مدينة آني – عاصمة الباقرادونيين في أرمينيا. وبذا لعب بدر الدين الجمالي دورًا عمرانيًا وسياسيًا وإداريًا وحربيًا في تاريخ الخلافة الفاطمية وإصلاح الوضع بكل معنى الكلمة في الدولة.
بعد وفاة بدر الدين الجمالي تدرج في منصب الوزير في الخلافة الفاطمية الأفضل شاهنشاه بن بدر الدين الجمالي، أحمد بن الأفضل، السعيد أبو الفتح يانس الأرمني، بهرام الأرميني، طلائع بن رزيك، رزيك بن طلائع وغيرهم. وكان رزيك بن طلائع آخر وزير أرمني في الحكومة الفاطمية وقد حكم من عام 1161م إلى 1163م وكان يلقب بالعادل.
ومنح الأرمن في الفترة المذكورة وما بعدها في مصر العديد من السلطات التشريعية والتنفيذية في مختلف مجالات الدولة. ومن الوظائف التي كان الأرمن يتولونها وظيفة "صاحب الدار" التي كانت تعتبر أعظم رتب الأمراء، ومن يتولاها يرشح للوزارة، ومن الوظائف الأخرى "الإشراف على الكسوة" ومنصب "نائب الوزير" وغيرها.
وعني الأرمن في مصر بالحياة العلمية والأدبية والعمرانية عناية فائقة. وأضحى اهتمامهم بهذه المجالات عاملًا أساسيًا من عوامل قيام النهضة العلمية والعمرانية والأدبية المشهودة في مصر في العصر الفاطمي.
ووصل الأرمن في مصر إلى مراكز مرموقة في ظل الدولة الأيوبية والمماليك والإمبراطورية العثمانية، وقدموا خدمات جليلة للبلاد. وازدهرت الجالية الأرمينية خاصة في عصر محمد علي عقب فشل حملة نابليون على مصر. وبرز في مطلع القرن التاسع عشر عدة شخصيات أرمينية، كان لهم دورًا كبيرًا في حياة البلاد السياسية والاقتصادية والثقافية الخ، وقدموا بذلك خدمات عظيمة للبلاد.
وتقلد هؤلاء المناصب الرفيعة في الحكومة المصرية وخاصة في مجالات الاقتصاد والبنوك والتعليم والثقافة والفنون الخ. وعلى سبيل المثال نذكر نوبار باشا نوباريان (1824-1899) الذي تقلد مناصب وزير الإسكان والعدل وأصبح وزيرًا للخارجية أربع مرات، ووزيرًا للتجارة، فضلا عن رئاسة الوزراء لثلاث فترات أخرى.
خدمت شخصية نوبار باشا جميع حكام مصر في القرن التاسع عشر بدءًا من محمد علي حتى عباس حلمي الثاني. وكانت شخصيته قوية، تمتلك طاقة لامحدودة ساعدته في ذلك دخوله المبكر إلى الأوساط السياسية في مصر. واختياره العمل في مصر يعود إلى موقعها الجغرافي الفريد بالنسبة للباب العالي من ناحية وللقوى الاستعمارية الأوروبية من ناحية أخرى. وخلال وجوده في الحكومة المصرية انتهج نوبار باشا دائمًا سياسة مستقلة مدافعًا عن مصر أمام التدخلات الأوروبية وحاميًا المصريين من ظلم حكامهم.
أرمينيا بعد الاستقلال
ابتداء من ثمانينيات القرن العشرين ظهرت لأسباب عديدة بواعث انهيار السلطة السوفياتية التي كانت تضم 15 جمهورية على رأسها روسيا الفيدرالية، بعد أن دامت حكمها زهاء سبعين عامًا. فالمسألة القومية أو العرقية كانت قائمة خلال الحكم السوفيتي، وكانت لها جذور تاريخية عميقة، لاسيما في القوقاس وبعض مناطق روسيا الاتحادية، فجرها تفكك الاتحاد السوفياتي.
أثر ازدياد توتر الوضع السياسي والاقتصادي في الإتحاد السوفيتي وتفاقم القضية العرقية، وانطلاقًا من إرادة شعب أرمينيا تبنى المجلس الأعلى للبلاد في 23 أغسطس عام 1990 "بيان" استقلال أرمينيا. وبذلك بدأت عملية إعادة إحياء دولة أرمينيا ووفق البيان التاريخي أعيدت تسمية جمهورية أرمينيا السوفيتية الاشتراكية بـ "جمهورية أرمينيا" وسرعان ما أقرّ البرلمان بعض القرارات بشأن تثبيت الرموز الوطنية وصلاحية تطبيق القوانين الأرمنية في البلاد.
ولاحقًا ساعدت بعض المبادرات الهامة والمنبثقة من روح "البيان" على إحياء قوانين الملكية الخاصة والسوق الحرة والخصخصة وإنشاء نظام سياسي متعدد الأحزاب، الخ. وهكذا أصبحت أرمينيا من أولى الجمهوريات السوفيتية تسير في درب إنجاز الاستقلال الوطني رغم عدم رضى موسكو ومحاولات السلطة المركزية الشيوعية المستميتة لإفشال هذه المسيرة.
ورغبة في تحقيق آمال شعب أرمينيا في الحصول على الإستقلال وإعطاء "البيان" صيغة شرعية، قرر المجلس الأعلى إجراء استفتاء شعبي عام في الجمهورية بشأن خروج أرمينيا عن الاتحاد السوفيتي. وجرت في الجمهوريات السوفيتية الأخرى مبادرات مماثلة أدت إلى انهيار الحكم السوفياتي تدريجيًا وظهور الدول المستقلة. وفي 21 سبتمبر عام 1991 وبموجب نتائج الاستفتاء العام في الجمهورية أعرب شعب أرمينيا عن تصويته "نعم" للاستقلال. وبذا بدأت صفحة جديدة في تاريخ أرمينيا كجمهورية مستقلة ذات سيادة.
في 21 ديسمبر عام 1991م اجتمع زعماء 11 دولة من جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق في آلما-آتا، عاصمة كازاخستان ووقعوا "بيانًا مشتركًا" بشأن إنشاء رابطة جديدة باسم "رابطة الدول المستقلة". وباتخاذ هذا القرار أعلن رسميًا عن تفكك اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية وانهالت الاعترافات من قبل دول العالم باستقلال جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق ومن بينها أرمينيا.
في مجال السياسة الخارجية أعلنت جمهورية أرمينيا عن مسيرتها المبنية على أسس ومبادئ حسن الجوار وأهداف ميثاق هيئة الأمم المتحدة وإعلان حقوق الإنسان والقوانين والأعراف الدولية وإقرار مساواة الدول في السيادة وصيانة الأمم والأمن الدوليين. وإنطلاقا من هذه المواقف قامت أرمينيا بتطوير علاقاتها مع دول العالم وأعربت عن استعدادها الكامل لتعزيز التعاون والمنفعة المتبادلة مع جميع الدول وتعزيزها في شتى المجالات.
وبالرغم من الصعوبات الجمة بعد إنهيار النظام الاشتراكي، بدأت السفارات الأرمنية بممارسة أعمالها في العديد من عواصم الدول نذكر منها على سبيل المثال روسيا الاتحادية ورابطة الدول المستقلة، جورجيا، إيران، الولايات الأمريكية المتحدة، بلدان الاتحاد الأوروبي وأمريكا اللاتينية والآسيوية وغيرها.
ويجدر القول بأن أرمينيا تمكنت من إحراز تقدم كبير في عملية بناء الدولة.لقد قامت أرمينيا بتطوير مؤسسات قوية للسلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية، والتي تتميز بالاستمرارية ودرجة عالية من الكفاءة. من أجل ضمان النمو الاقتصادي المستدام وزيادة القدرة التنافسية الاقتصادية، تم الإعلان عن تطوير اقتصاد قائم على المعرفة والتكنولوجيا المتقدمة كهدف استراتيجي أساسي طويل المدى.
واليوم تحتفظ أرمينيا بعلاقات جيدة مع كل بلدان العالم تقريبًا يستثنى من ذلك جارتاها المباشرتان تركيا وأذربيجان. لا تزال الحدود مغلقة بين البلدين المتنافسين حتى يومنا هذا ولم يتم التوصل إلى حل دائم لصراع ناغورني كاراباخ على الرغم من الوساطات الدولية.
لسوء الحظ، منطقة جنوب القوقاز مضطربة للغاية.في عام 2020، شنت أذربيجان، بدعم سياسي وعسكري غير مشروط من تركيا، حربًا جديدة ضد جمهورية أرتساخ، في محاولة لحل نزاع ناغورنو كاراباخ باستخدام القوة.
العلاقات الأرمينية المصرية
انطلاقًا من طبيعة العلاقات المتميزة بين الأرمن والشعب العربي وسعيًا نحو تعزيز العلاقات التاريخية والثقافية مع العالم العربي منذ السنوات الأولى للاستقلال، أولت أرمينيا أهمية كبيرة لعلاقاتها مع دول الشرق الأوسط، فخلال السنوات الماضية وقعت أرمينيا اتفاقيات ومذكرات بشأن إقامة العلاقات الدبلوماسية مع الدول العربية. وبهذا تم وضع الأسس الشرعية للتعاون مع العالم العربي وفق مبادئ المعاهدات الدولية في جميع المجالات وعلى صعيد المنظمات الدولية والتعاون الإقليمي والخ.
واستمر الحوار السياسي بين أرمينيا والبلدان العربية على عدة مستويات وتتابعت الزيارات الرسمية المتبادلة على مستوى الرؤساء ووزراء الخارجية والمسؤولين الدبلوماسيين. وهناك توافق وتفاهم بين أرمينيا والدول العربية حول القضايا المهمة، ومن بينها قضية السلام في منطقة الشرق الأوسط. واليوم لأرمينيا 11 بعثة دبلوماسية في المنطقة، وبالتأكيد من أن خلال السنوات المقبلة هذا العدد سيزداد.
تم افتتاح أول سفارة لأرمينيا في الشرق الأوسط في القاهرة والتي بدأت عملها في سبتمبر 1992. وتم افتتاح السفارة المصرية في يريفان عام 1993. وقبل عدة أشهر احتفلت أرمينيا ومصر بالذكرى الثلاثين لتأسيس العلاقات الدبلوماسية بين البلدين الصديقين. وبهذه المناسبة أصدرت شركة البريد الوطنية في أرمينيا "هاي بوست" وهيئة البريد المصرية طوابع بريدية في 20 مارس. تم تنفيذ المبادرة غير المسبوقة المذكورة بنشاط والعمل المتواصل لسفارة جمهورية أرمينيا في القاهرة.
وتبذل سفارة أرمينيا في مصر جهودًا كبيرة لتعزيز وتطوير التعاون الاقتصادي والتجاري بين البلدين، آملًا بأن تزيد التجارة الثنائية والاستثمارات المتبادلة في السنوات المقبلة. في غضون ذلك، أود أن أذكر أننا حققنا مؤخرًا إنجازات ملموسة في مجال السياحة. وفقًا للبيانات الحالية، قام أكثر من 30000 سائح من أرمينيا بزيارة مصر خلال هذا الصيف. وفي نهاية هذا العام نتوقع أن يصل عدد الزوار الأرمن إلى مصر إلى 100000زائر.
وسينعقد منتدى الأعمال الأول لمشغلي الجولات السياحية الأرمنية والمصرية في القاهرة نهاية الشهر الجاري. أعتقد أن هذا الحدث سيكون له تأثير إيجابي على تعاون بلدينا في هذا المجال. من الجدير بالذكر أن في الآونة الأخيرة، تم تبسيط نظامي منح تأشيرات الدخول بشكل متبادل ومما ستؤدي إلى تعزيز التعاون في مجال السياحة.
بالحديث عن مأساة الإبادة الجماعية للأرمن في الدولة العثمانية، يجب أن نعرب عن امتناننا لجميع الدول والشعوب التي منحت حق اللجوء لمواطنينا الذين تمكنوا من الفرار من المذابح. وجد الآلاف منهم منزلًا ثانيًا لهم هنا - في مصر.
اليوم، أن الجالية الأرمنية في مصر تساهم بنشاط في تعزيز صداقتنا التاريخية وتعاوننا الوثيق. علاوة على ذلك، توجد في مصر كنائس ونوادي ثقافية ومدارس أرمينية. ويتم نشر الكتب والصحف الأرمينية. وأيضًا العديد من الفنانين المصريين من أصل أرمني محترمون ومحبوبون في هذا البلد الرائع.نحن نقدر تقديرًا عاليًا الموقف الإيجابي لرئيس الدولة وللحكومة المصرية تجاه الجالية الأرمينية في مصر.
كما يقوم مركز الدراسات الأرمينية بجامعة القاهرة بأنشطة تعليمية فعالة، فمنذ شهر مارس لهذا العام، وبتمويل من حكومة جمهورية أرمينيا، وصل محاضر من جامعة يريفان الحكومية لتدريس اللغة الأرمينية للطلاب المصريين. ويخطط المركز لعقد مؤتمر علمي دولي، في مارس 2023.
نحن على يقين من أن أرمينيا ومصر ستحققان تقدمًا كبيرًا في عدد من المجالات، وبما في ذلك السياسة والتجارة والسياحة والتعليم وغيرها. قد أكدت المشاورات السياسية، التي عقدت هذا العام في يوليو بين وزارتي الخارجية، الرغبة المتبادلة بين بلدينا للمضي قدمًا في هذه الاتجاهات.
وفي الختام، يمكن القول بأن العلاقات الأرمينية العربية السياسية مرّت خلال السنوات الماضية بمراحل مختلفة، ساعدت على الوصول إلى التفاهم التام بين الطرفين والتحضير لمواجهة كافة الظروف، توطيدًا للعلاقات الأرمينية العربية التاريخية الودية.