رحلة تاريخية مع شركة النصر لصناعة السيارات
عندما طالعني خبر اعتماد الجمعية العامة غير العادية لشركة النصر لصناعة السيارات التابعة للشركة القابضة للصناعات المعدنية، إحدى شركات وزارة قطاع الأعمال العام، قرار دمج الشركة الهندسية لصناعة السيارات في شركة النصر لصناعة السيارات –وكما ذكرت الوزارة في بيانها- في إطار خطة وزارة قطاع الأعمال العام لتوطين صناعة المركبات الكهربائية بأحجامها المختلفة في ظل التوجه العالمي نحو التحول إلى الاقتصاد الأخضر، وتكوين كيان قوى في هذه الصناعة وتحقيق التكامل بين الشركتين خاصة وأنهما تعملان في نشاط متماثل، ومتجاورتان في موقع العمل بمنطقة وادي حوف في حلوان.
وتتضمن مشروعات الكيان الجديد إنتاج مركبات كهربائية متنوعة من السيارة السيدان والميكروباص وبديل للتوك توك، فضلا عن مشروع تطوير البطاريات ونظم التحكم، وذلك بالتعاون مع شركات عالمية ومحلية، وفقا للبيان. عند ذلك انهالت علي ذكريات شجنية عن شركة النصر لصناعة السيارات، وأخذني الخيال إلى زمن اهتمام مصر بقيادة زعيمها جمال عبد الناصر بالصناعة تحت شعار نفذ بالفعل أكثره وهو من الإبرة إلى الصاروخ، وقتها وجد الزعيم الوطني أنه لا سبيل للخروج بمصر من أزمتها الاقتصادية وتابعيتها للإنجليز وتأخرها في ذيل الأمم سوى بتحقيق مشروع طموح ضخم، يوفر أولا فرص عمل حقيقية لأبناء الشعب المصري..
ثانيا يوفر المنتجات التي يتم استيرادها من الخارج، ثالثا يوفر العملة الصعبة لمصر، رابعا يدخل عملة صعبة من التصدير، خامسا يجعل الناس تعيش حياة كريمة حقيقية فعلية وليست شعارا، بأن يجعل حياة الناس تنتعش اقتصاديا وبالتالي تدور الحركة وتعمل المصانع وتروج المنتجات، كما أن ذلك يؤدي لاحتياج تعليم ضخم ومجاني لعامة الشعب وليس تعليما يقتصر على أولاد الأثرياء المحظوظين الذين يتعلمون في الجامعات الأهلية والخاصة ليحصلوا على تعليم مميز بينما الفقراء يقتصرون على شهادات متوسطة ليعملوا بها في المجالات التي يعاف أبناء الأثرياء عن العمل بها.
مشروع الأبرة والصاروخ
فقرر الزعيم أن يكون التعليم مجاني على حساب الدولة التي تقدر أبناءها وتحترمهم، وترعى فقراءها وتجعلهم في العين والقلب وليس في الشعارات الجوفاء، فكانت بداية الوحدات الصحية الريفية في كل ربوع مصر، وكانت بدايات المدارس في ريف مصر، وكانت بدايات المستشفيات الكبرى في مدن مصر، وكل ذلك بالمجان لأبناء مصر، أما الاثرياء فيتعلمون ويعالجون في الخارج أو الداخل على نفقتهم الخاصة.
وبالعودة إلى مشروع من الإبرة إلى الصاروخ بهدف إنشاء مشروع قومي بنهضة صناعية كبرى في مصر والوطن العربي، تأسست شركة النصر للسيارات سنة 1959، وكانت الحكومة المصرية قد أسستها لتجميع السيارات في البداية ومن ثم صناعة أول سيارة مصرية خالصة ويعود تاريخ إنشاء الشركة إلى صدور قرار وزاري عام 1957 بتشكيل لجنة تضم وزارة الحربية ووزارة الصناعة؛ لإنشاء صناعة سيارات اللوري والأتوبيسات في مصر..
وتم دعوة شركات عالمية لإتمام ذلك، وبالفعل أسند هذا المشروع إلى شركة «كلوكنر-همبولدت-دوتيز» الألمانية الغربية والمعروفة حاليا باسم «دويتز آ.جي»، وتم التوقيع على ذلك عام 1959، ثم صدر القرار الجمهوري رقم 913 في 23 مايو 1960 بتأميم شركة النصر لصناعة السيارات، لتصبح ملكا للحكومة المصرية. وتم افتتاح خطوط التجميع في وادي حوف عام 1960، وتوالت عقود مشروعات تصنيع سيارات الركوب مع شركة NSU الألمانية وشركة فيات الإيطالية، والجرارات الزراعية مع شركة IMR اليوغسلافية والمقطورات مع شركة بلاوهيرد الألمانية، وبلغت توسعات الشركة 1،660،000 م².
وتعتبر شركة النصر للسيارات من الشركات القليلة في الشرق الأوسط في إنتاج اللوري والأتوبيسات والجرارات الزراعية وسيارات الركوب، وتطور إنتاج الشركة تطورًا كبيرًا بفضل العمالة الماهرة والمدربة عن طريق أكبر مراكز التدريب الألمانية. وكان هدف إنشاء الشركة بمثابة مشروع قومي بنهضة صناعية كبرى تقوم على التبادل التجاري والصناعي والاستغلال الأمثل للموارد البشرية والأيدي العاملة، استغلالًا لكل الطاقات وتدريبها لخدمة الوطن، وبدأت الشركة بـ290 عاملًا حتى وصلت لأكثر من 12 ألف عامل من العمالة الفنية المدربة، بالإضافة إلى العمالة في مصانع الصناعات المغذية للشركة.
الخصخصة السبب
وعملت شركة النصر على تجميع سيارات فيات في مصانعها وحازت على ثقة المصريين، وكانت أكثر السيارات مبيعا في السوق المصرية، كما استمرت شركة النصر في تصنيع سيارات فيات التي إنتاجها في إيطاليا بالتعاون مع شركات السيارات المتعاونة مع فيات والحاصلة على ترخيص بتعديل هذه الموديلات. وظلت شركة النصر تنتج السيارة 128 (أنتجتها فيات سنة 1969) بالتعاون مع شركة يوجو الصربية، وأنتجت شركة النصر أيضا السيارة نصر شاهين وهي موديل معدل في شركة توفاش "Tofaş" التركية من السيارة فيات 131، وكذلك فلوريدا بالتعاون مع شركة يوجو الصربية، وهي نموذج معدل من سيارة فيات 128.
وجاءت الطامة الكبرى مع بداية التسعينات، حيث الخصخصة غير المدروسة تماما أو غير المقيدة، فشجعت الحكومة المصرية على إنشاء مصانع خاصة لإنتاج وتجميع السيارات، وبدأت عدة شركات عالمية بإنشاء مصانع لها في مصر وقدمت عدة موديلات حديثة تلبي احتياجات المستهلك مقارنة بما كانت تقدمه شركة النصر من موديلات أوقف إنتاجها في مصانع فيات منذ سنوات، حيث ظهرت ماركات أخرى مثل سوزوكي وهيونداي وبيجو بالإضافة إلى أوبل التابعة لمصنع جنرال موتورز مصر العامل في مصر منذ نهاية السبعينات.
وفي ظل هذا التنوع الكبير والمنافسة الشرسة، تدنت مبيعات شركة النصر بشدة مما أدى إلى زيادة الديون المتراكمة أساسا. وبدأت إجراءات تصفية شركة النصر للسيارات بسبب تراكم مديونياتها إلى 2 مليار جنيه، وتم تقليص عدد العمالة من 10 آلاف إلى 300 عامل حيث قدمت الشركة ميزانياتها محققة خسائر 165 مليون جنيه. وجاء تراكم مديونيات شركة النصر لصناعة السيارات لسببين، الأول بسبب عدم توافر عملات أجنبية لإبرام اتفاقيات السيارات المراد تجميعها، حيث كان المتبع حينها أن يتم فتح اعتماد مستندي بالعملة الأجنبية لدى أحد البنوك الوطنية..
وكان لا بد من سداد الاعتماد المستندي بالعملة الأجنبية، ولم تتوفر العملة الأجنبية للشركة للسداد نظرا لأن مبيعاتها كانت داخل السوق المصرية، كما أن سعر الدولار الأمريكي حينها كان أقل من الجنيه المصري، ثم جاءت السياسات الاقتصادية لتحرير سعر الصرف مما أدى إلى عجز الشركة عن سداد مديونياتها نظرا للارتفاع السريع جدا لسعر الدولار.
أما السبب الثاني فقد كانت السياسات الخاطئة من الدولة بالتسعير الجبري للسيارة خلال فترة السبعينات وأوائل الثمانينات، حيث كانت الدولة تتبع السياسات الاشتراكية لتيسير حصول المواطنين على سيارة بما يتناسب ومتوسط الدخل للفرد في مصر. وعلى سبيل المثال، فقد بيعت سيارة نصر 133 في أوائل الثمانينات بمبلغ 3000 جنيه مصري، في حين كانت تكلفة تصنيعها حوالي 5000 جنيه مصري. وأقر مجلس الشورى عودة الشركة للعمل في شهر مارس 2013 تحت إشراف وزارة الإنتاج الحربي والتي وافقت على إعادة المصنع للعمل تحت إشرافها في شهر إبريل 2013.